العلم الذي يفضح المصالح.. ما نجهله عن الاقتصاد السياسي

شارك هذه المقالة مع أصدقائك!


يعد الاقتصاد السياسي واحدا من أصعب وأقوى فروع المعرفة التي تجمع بين عمق الاقتصاد وتشعّب السياسة، فهو ليس مجرد تقاطع بين المجالين، بل هو الإطار الحاكم لفهم كيفية صناعة القرار وتوزيع الثروة والسلطة في المجتمعات.

إنه العلم الذي يكشف من يهيمن، ولماذا، وكيف تدار المصالح خلف الستار، وهو الأساس الحقيقي الذي تقوم عليه العلاقات الدولية، إذ لا يمكن فهم توازنات القوى أو تحولات التحالفات أو حتى اندلاع الصراعات دون الرجوع إلى منطق الاقتصاد السياسي الذي يفسر ما وراء الخطاب، ويكشف منطق المصالح الذي يحرك العالم.

في الوقت الذي تزداد فيه التغطيات الصحفية للقضايا السياسية والاقتصادية محليا ودوليا، يظل أحد أكثر العلوم تأثيرًا وغموضا في آنٍ واحد غائبا عن أدوات الصحفيين، وهو علم الاقتصاد السياسي، فرغم أن الصحفي المعني بالشأن العام يتعامل يوميا مع قرارات سياسية ذات أبعاد اقتصادية، أو سياسات اقتصادية ذات دوافع سياسية، إلا أن كثيرا منهم لا يدركون أن هذه القرارات ليست معزولة أو محايدة، بل تمثل نتاجا مباشرا لتشابك معقد بين السلطة والمصلحة، بين من يملك القرار ومن يتأثر به.

هنا تتجلى أهمية الاقتصاد السياسي، ليس كفرع أكاديمي بحت، بل كمنظور تحليلي جوهري يساعد الصحفي على فهم العالم كما هو، لا كما يقدم في التصريحات والخطابات الرسمية.

الاقتصاد السياسي يعنى بتحليل كيفية توزيع الموارد في المجتمع من خلال السلطة، ويفكك العلاقة بين السياسات الاقتصادية والنظم السياسية التي تنتجها، بمعنى آخر، هو علم يدرس من يصنع القرار ولماذا، ومن المستفيد ومن الخاسر، وما القوى الاجتماعية التي تفرض أجندتها على صانع القرار.

فمثلًا، قرار برفع الدعم الحكومي لا يمكن فهمه كإجراء اقتصادي فقط، بل ينبغي تحليله في ضوء توازنات القوى، وتوجهات الدولة، ومدى استجابتها لمتطلبات المؤسسات الدولية أو لضغوط داخلية من فئات بعينها، وكذلك، عند تغطية أزمة مالية أو موجة غلاء، لا يكفي للصحفي أن يورد الأسباب المباشرة، بل عليه أن يبحث في عمق النظام الاقتصادي والسياسي الذي أنتج هذه الأزمة وكرس تبعاتها.
إن غياب هذا المنظور عن كثير من التغطيات الصحفية يؤدي إلى نوع من “الاختزال المعرفي”، حيث تقدم الأحداث وكأنها معزولة عن بنيتها السياسية والاقتصادية، وهذا ما يجعل التحليلات سطحية، غير قادرة على التفسير، وتكتفي فقط بنقل الظواهر دون تفكيك جذورها، أما الصحفي المتمكن من أدوات الاقتصاد السياسي، فهو من يستطيع أن يكشف منطق السياسات العامة، ويضع القرارات في سياقها، ويقدم لجمهوره فهما أعمق من مجرد تغطية الحدث، إنه يدرك، على سبيل المثال، أن الخصخصة ليست قرارا اقتصاديا فقط، بل تعبير عن تحولات أيديولوجية وسياسية، وأن التوسع في الاقتراض الخارجي ليس مسألة أرقام، بل انعكاس لتوجهات الحكم ونمط العلاقة مع النظام المالي العالمي.
تتضح أهمية الاقتصاد السياسي كذلك عند تحليل التحولات الإقليمية والدولية، فعلى سبيل المثال، لا يمكن فهم الحرب في أوكرانيا من منظور جيوسياسي بحت دون ربطها بمصالح الطاقة، وسوق الغاز، والتحكم في الموارد الاستراتيجية، كما أن العلاقات الإفريقية المصرية لا تفهم فقط من زاوية الدبلوماسية الرسمية، بل يجب أن تُقرأ في ضوء التنافس الإقليمي على النفوذ من خلال أدوات الاقتصاد، كالاستثمار والمساعدات والتجارة، ومثل هذه الأمثلة تكشف كيف أن فهم الاقتصاد السياسي ضروري لتقديم تغطية صحفية شاملة تستند إلى تحليل المصالح وليس مجرد متابعة التصريحات.
في ضوء ما سبق، يمكن القول إن الاقتصاد السياسي لم يعد علما نخبويا يدرس فقط في الجامعات، بل أصبح أداة ضرورية لكل من يشتغل بالإعلام الجاد، فالإلمام بهذا الحقل المعرفي يمنح الصحفي القدرة على الربط بين ما هو ظاهر وما هو كامن، بين ما يقال وما يقصد، وبين ما يعلن وما يخفى، إنه لا يُعطي إجابات جاهزة، لكنه يُعلّم كيفية طرح الأسئلة الصحيحة، ويمنح صاحبه القدرة على كشف منطق السلطة والمصلحة خلف كل قرار. 

لذلك، فإن غياب الاقتصاد السياسي عن أدوات الصحافة ليس مجرد نقص معرفي، بل فجوة حقيقية تؤثر على جودة الخطاب الإعلامي، وتضعف من قدرته على خدمة الرأي العام.

إن الحاجة اليوم لتطوير وعي الصحفيين بالاقتصاد السياسي أصبحت ملحة أكثر من أي وقت مضى، في ظل عالم شديد التعقيد وسريع التحول، فليس هناك صحافة تحليلية محترفة دون هذا الفهم، وليس هناك تفسير معمق للسياسات دون هذا العلم، ومن هنا، فإن إدماج الاقتصاد السياسي في التكوين العلمي والمهني للصحفيين لم يعد خيارا، بل ضرورة لتجاوز السطحية، وإعادة الاعتبار للتحليل الرصين في العمل الإعلامي.
 



‫0 تعليق

اترك تعليقاً