عندما يتبنى الوطن منطق الدولة

شارك هذه المقالة مع أصدقائك!


«رُبَّ ضارةٍ نافعة» كما قالت العرب.

وثمَّة دروسٌ تستحق التوقُّف عندها، فيما أعلنه الرئيس السوري أحمد الشرع، منذ أيام، بشأن التفاعل الإيجابي مع المبادرة الأمريكيَّة – العربيَّة – التركيَّة التي قضت بانسحاب الجيش السوري من محافظة السويداء، وتسليم الأمن فيها للقوات المحليَّة، لا يمكن فهمها خارج السياق السياسيِّ المعقَّد. كما لا يصحُّ تقييمها من منطلقاتٍ انفعاليَّة أو شعبويَّة؛ لأنَّ ما حصل، ببساطة، كان قرارًا يُعبِّر عن موقع المسؤوليَّة السياديَّة في لحظة ضغطٍ استثنائيٍّ. لقد جاء هذا القرار، رغم بعض المُعطيات التي يمكن أنٍ تُوهِمَ بتوفُّر القدرة العسكريَّة للدولة؛ على فرض وجودها الكامل بالقوة، ورغم بعض الأصوات، داخل الدولة وخارجها، والتي كانت تُطالب بالحسم المباشر والسَّريع؛ حفاظًا على السيادة، لحماية وحدة البلاد وهيبة القانون.. بل إنَّ الخطاب الشعبي السوري، في وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي، كان -ولا يزال- يعكسُ هذا الميل بوضوح، ويُعبِّر عن توقٍ شعبيٍ مفهوم لفرض سلطة الدولة على كامل التراب السوريِّ.

لكن الدولة اختارت التصرُّف بمنطق رجال الدولة لا بردود الفعل. وهذا هو جوهر الفارق بين الرُّؤية الإستراتيجيَّة التي تحتكم إلى التقدير الدقيق للواقع المحليِّ والإقليميِّ والدوليِّ، وبين الحسابات الشعبيَّة المبنيَّة على الشعور بالانتماء والكرامة والانتقام. فرجال الدولة لا يملكون ترف الانفعال، ولا يمكنهم اتِّخاذ قراراتٍ مصيريَّة؛ استنادًا إلى الصوت الأعلى في الشارع؛ لأنَّهم مطالبون بالنَّظر إلى المشهد بكل تعقيداته، وموازنة كل عنصر من عناصر القرار، بما في ذلك التبعات الإقليميَّة والدوليَّة، واحتمالات التصعيد، وإمكانات الاحتواء. ولذلك، فإنَّ الانسحاب لم يكن هزيمةً، وإنِّما كان قرارًا سياسيًّا إستراتيجيًّا يُبقي الباب مفتوحًا لحلولٍ أُخْرى، ويُجنِّب البلاد منزلقاتٍ خطيرة. وهو، في الجوهر، إعلانٌ عن ثقة الدولة بنفسها، وبأنَّها قادرةٌ على إدارة ملفاتها الداخليَّة بمرونةٍ وقوَّةٍ، دون الحاجة لإثبات الحضور العسكريِّ في كلِّ لحظةٍ وبكلِّ مكانٍ.

إن التعامل الإيجابي مع تلك المبادرة لا يعني التخلِّي عن السيادة، ولا القبول بالمشروعات الانفصاليَّة، وإنِّما يعني -تحديدًا- وجودَ المرونة والقُدرة على تغيير طريقة التعامل مع المشكلة؛ لضمان استقرارٍ أشملَ في لحظةٍ إقليميَّةٍ دقيقةٍ. كما أنَّه يحقق، بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ، هدف عزل القوى الانفصاليَّة سياسيًّا واجتماعيًّا، بدل مواجهتهم عسكريًّا، بطريقة قد تؤدِّي إلى نتائج عكسيَّة في البيئة المحليَّة والدوليَّة.

ومن المهم، هنا، التذكير بأنَّ القيادة السوريَّة لا تفتقر تاريخيًّا، إلى الخبرة، أو الإرادة في بسط سلطتها عند الحاجة.. لكنَّ القرارات الكُبْرى لا تُبنَى على موازين القوَّة فقط، وإنِّما على حسابات المصالح الوطنيَّة الشَّاملة، التي تضع استقرار الدولة ووحدتها ومستقبلها السياسي والاقتصادي فوق كل اعتبار. وفي هذا السياق، يأتي هذا التفاعل مع المبادرة كمؤشِّر على وعيٍ سياسيٍّ عميقٍ، وليس على تراجعٍ أو ضعفٍ.

وإذا كانت الرغبة الشعبيَّة تدفع -أحيانًا- باتجاه المواجهة، فإنَّ مسؤولية القيادة هي ترجمةُ تلك الرغبات إلى قراراتٍ عقلانيَّة لا تُعرِّضُ البلد لصداماتٍ غير محسوبة. فالدولة ليست في موقع التنازل، وإنِّما هي في موقع إدارة التوقيت والميدان، بما يتوافق مع أولويات الحفاظ على وحدة سوريا ومناعةِ نسيجها الوطني.

إن تغليب المصلحة الوطنية العليا ليس شعارًا عابرًا، وإنما هو جوهر القرار السياسي الصائب، خاصَّةً عندما تشتبك المصالح الدوليَّة والإقليميَّة فوق أرضٍ لا تزال خارجةً من حربٍ كُبْرى. وسوريا، اليوم، بحاجة إلى قراراتٍ بهذه الجرأة والمرونة، لا إلى استعراضات ميدانيَّة قد تُكلِّفها كثيرًا على المدى البعيد.

وختامًا، فإنَّ ما جرى ليس انكسارًا، فالسوريون لم يكونوا يومًا أهل لطمٍ وعويل.. وإنِّما هم شعبٌ يُولد من رحم الشدائد، ويشتدُّ بالمحن، ويتعلَّم من الأخطاء، ويقوى بالمراجعة والتَّصحيح. وإذا كانوا اليوم أمام لحظةٍ قاسيةٍ، فإنَّها ليست نهاية الطريق. وإنِّما هي -كما كانت كلُّ المحطَّات الكُبْرى في تاريخ نضال الشعوب- فرصةٌ لإعادة ضبط البوصلة، واستعادة زمام المبادرة، والتحرُّك بوعيٍ ومسؤوليَّة نحو الأهداف الكُبْرى التي لا تموت.

وليس غريبًا أنْ تُظهر الأيام المقبلة أنَّ هذا كله كان اختبارًا جديدًا لوَعْي الدولة، ولصلابة الشعب، وللقدرة على التصرُّف كأُمَّةٍ تعرف متى تتراجع بخطوةٍ؛ لتتفادى هاويةً، لا لتتخلَّى عن الطريق. وأنَّ ما عاشته سوريا في تلك الأيام العصيبة، كان لحظةً تستدعي صيانة سوريا بالعقل لا بالعاطفة، بالثقة لا بالذعر، وبحساب المصالح لا بتفجُّر الغضب. فهكذا تُصنع الأُمم التي لا تنكسر، بل تعود أقدرَ، في معرضِ امتلاك أسباب قوتها، من كل العواصف والأعاصير.



‫0 تعليق

اترك تعليقاً