بطولة بلا موعد ثابت.. كيف تحولت كأس أمم إفريقيا إلى أزمة زمنية؟
لم تعد أزمة كأس أمم إفريقيا مرتبطة فقط بسؤال تقليدي حول توقيت إقامتها، صيفًا أم شتاءً، بل تحولت خلال السنوات الأخيرة إلى أزمة هيكلية عميقة تضرب صميم التخطيط الرياضي في القارة السمراء، الجدل المشتعل قبل كأس أمم إفريقيا 2025 في المغرب ليس سوى حلقة جديدة في سلسلة طويلة من الارتباك، بدأت قبل أكثر من نصف عقد، وتفاقمت مع كل نسخة جديدة، حتى فقدت البطولة السيطرة الكاملة على جدولها الزمني.
قبل ثلاث نسخ فقط، كان من المفترض أن تكون كأس أمم إفريقيا جزءًا ثابتًا من الروزنامة العالمية، بطولة معروفة الموعد، واضحة المعالم، تستطيع الأندية والمنتخبات واللاعبون التخطيط لها مسبقًا، أما اليوم، باتت البطولة تُدار بمنطق ردّ الفعل، لا الفعل؛ تؤجل بسبب الأمطار، تُرحّل بسبب الأوبئة، تتداخل مع بطولات عالمية، وتصطدم بمصالح اقتصادية ورياضية أكبر منها.
النسخ الثلاث الأخيرة لم تُقم في موعدها الأصلي، وكل نسخة حملت مبررًا مختلفًا، لكن النتيجة واحدة.. منتخبات غير مستقرة، أندية غاضبة، لاعبون مرهقون، ودوريات إفريقية مشلولة، وبين كل ذلك، يقف الاتحاد الإفريقي لكرة القدم عاجزًا عن فرض توقيت ثابت، أو تقديم رؤية طويلة المدى تحمي البطولة من الفوضى الزمنية.

فوضى القرارات.. البطولة تفقد بوصلتها الزمنية نسخة بعد أخرى
حين قرر الاتحاد الإفريقي لكرة القدم نقل كأس أمم إفريقيا إلى شهري يناير وفبراير 2021 بدلًا من يونيو ويوليو، لم يكن القرار ترفًا تنظيميًا أو اجتهادًا إداريًا، بل جاء تحت ضغط الواقع المناخي القاسي، فالأمطار الموسمية الغزيرة التي تضرب عددًا كبيرًا من دول وسط وغرب إفريقيا خلال فصل الصيف جعلت إقامة البطولة في هذا التوقيت مغامرة حقيقية تهدد سلامة الملاعب وجودة المنافسة، كل هذا بعد أن أقيمت نسخة 2019 في مصر بأشهر الصيف.
لكن المفارقة أن العودة إلى الموعد الشتوي “التقليدي” لم تُنهِ الأزمة، بل فتحت الباب أمام سلسلة جديدة من الاضطرابات، فنسخة 2021 نفسها لم تُقم في موعدها، بعدما اجتاح فيروس كورونا العالم، ليعلن «كاف» في يونيو 2020 تأجيل البطولة من يناير 2021 إلى يناير 2022، في قرار عكس حجم الارتباك الذي أصاب المنظومة الكروية الإفريقية.

لم يكن الوباء وحده في قلب العاصفة، إذ واجهت البطولة ضغوطًا هائلة من الأندية الأوروبية، التي أبدت اعتراضًا صريحًا على إقامة الحدث في هذا التوقيت، خوفًا على صحة لاعبيها في ظل غياب بروتوكولات صحية صارمة، وتخوفًا من تبعات السفر إلى القارة الإفريقية خلال ذروة الجائحة. ومع ذلك، لم تكن أوروبا وحدها مصدر القلق.
من غينيا إلى كوت ديفوار.. تغيير المنظم لا يعني استقرار الموعد
بعد انتهاء نسخة الكاميرون2021 والتي أقيمت في 2022، دخلت البطولة في مرحلة جديدة من الاضطراب التنظيمي، استضافة نسخة 2023 كانت من نصيب غينيا في البداية، قبل أن يتم سحب التنظيم منها ومنحه إلى كوت ديفوار، في خطوة عكست استمرار القلق داخل “كاف” بشأن جاهزية الدول المضيفة.
ورغم أن نسخة كوت ديفوار مرت دون أزمات تنظيمية كبرى، إلا أن الطريق إليها كان مليئًا بالتردد والقرارات المتأخرة، فقد كان من المفترض أن تُقام البطولة صيف 2023، لكنها أُجلت إلى يناير 2024 بسبب المخاوف المناخية نفسها، في تأكيد جديد على أن الاتحاد الإفريقي لم ينجح في حسم معضلة التوقيت حتى مع تغيير الدولة المنظمة.
المثير أن تأجيل الاستضافة ربما جاء في صالح كوت ديفوار، إذ منحها وقتًا إضافيًا للاستعداد، وساهم في خروج البطولة بصورة تنظيمية جيدة نسبيًا. لكن النجاح النسبي لا يلغي أن البطولة أُقيمت مرة أخرى خارج موعدها المخطط، لتصبح هذه النسخة الثالثة على التوالي التي تُقام في غير توقيتها الأصلي.

كل ذلك وأكثر نتعرف عليه بالتفصيل من خلال 365 scores ونجيب من خلاله على العديد من الأسئلة المطروحة على الساحة الرياضية، أهمها ماذا حدث في النسخ الثلاثة الأخيرة، ولماذا تصطدم الأندية الأوروبية بالإتحاد الإفريقي لكرة القدم كاف، وهل حقًا الدوريات المحلية هي الخاسر الأكبر في المعادلة؟
آخر 3 نسخ.. بطولة تُرحّل قسرًا إلى منتصف الموسم
عندما استضافت مصر كأس أمم إفريقيا 2019 في الفترة من 21 يونيو إلى 19 يوليو، بدا المشهد وكأنه إعلان ولادة جديدة للبطولة، لأول مرة، تُقام المسابقة في الصيف بدلًا من يناير وفبراير، في خطوة هدفت بالأساس إلى إنهاء الصراع التاريخي مع الأندية الأوروبية.
استضافت مصر نهائيات كأس أمم إفريقيا 2019 في واحدة من أكثر النسخ استثنائية في تاريخ البطولة، تنفيذًا لقرار اللجنة التنفيذية للاتحاد الإفريقي لكرة القدم الصادر في 20 يوليو 2017، بنقل البطولة من موعدها الشتوي المعتاد في يناير وفبراير إلى شهري يونيو ويوليو للمرة الأولى، وجاء هذا التحول ضمن رؤية تهدف إلى تخفيف التعارض مع الدوريات الأوروبية الكبرى، ومنح البطولة مساحة زمنية أكثر استقرارًا.
كما شهدت نسخة 2019 تحولًا تاريخيًا آخر، تمثل في توسيع عدد المنتخبات المشاركة من 16 إلى 24 منتخبًا، في خطوة عززت من الطابع القاري للبطولة ورفعت من حجم المنافسة والاهتمام الجماهيري.
رياضيًا، حملت البطولة إثارة كبيرة، حيث نجح المنتخب الجزائري في التتويج باللقب بعد فوزه على السنغال بهدف دون رد في المباراة النهائية، ليحقق “محاربو الصحراء” اللقب القاري الثاني في تاريخهم، النسخة المصرية تميزت بحضور جماهيري لافت وتنظيم مكثف للمباريات عبر عدة مدن، ما عكس قدرة الدولة المضيفة على استيعاب بطولة موسعة بهذا الحجم خلال فترة زمنية قصيرة، وأعاد الثقة نسبيًا في قدرة القارة على تنظيم بطولات كبرى وفق معايير حديثة.

لكن الطريق إلى استضافة مصر للبطولة لم يكن مخططًا له منذ البداية، إذ كان من المقرر أن تستضيف الكاميرون كأس أمم إفريقيا 2019 للمرة الأولى منذ عام 1972، إلا أن اللجنة التنفيذية لـ«كاف» قررت في 30 نوفمبر 2018 تجريد الكاميرون من حق التنظيم بسبب التأخير في تسليم مشروعات البنية التحتية، إلى جانب التحديات الأمنية المرتبطة بتمرد جماعة بوكو حرام، وأزمة اللغة الإنجليزية داخل البلاد.
وفي 8 يناير 2019، تم اختيار مصر رسميًا لاستضافة البطولة، مع تعديل طفيف في الجدول الزمني بنقل مواعيدها من الفترة الأصلية (15 يونيو – 13 يوليو) إلى 21 يونيو – 19 يوليو، لتدخل مصر السباق التنظيمي في توقيت ضيق، لكنها نجحت في إخراج نسخة تركت أثرًا واضحًا في تاريخ كأس أمم إفريقيا.
نسخة 2021.. الأمطار، كورونا، والبنية التحتية… ثلاث ضربات متتالية
استمر غياب التنظيم للنسخة الثانية على التوالي، فكان من المقرر أن تُقام كأس أمم إفريقيا 2021 في الكاميرون، لكن منذ اللحظة الأولى، بدأت المؤشرات السلبية، فالدولة الواقعة في وسط إفريقيا تعاني من أمطار موسمية غزيرة خلال فصل الصيف، ما دفع “كاف” إلى اتخاذ قرار بنقل البطولة من يونيو ويوليو إلى يناير وفبراير، العودة إلى الشتاء لم تكن المشكلة الكبرى، بل ما تلاها، في مارس 2020، اجتاح فيروس كورونا العالم، لتدخل القارة الإفريقية في حالة شلل شبه كامل، التصفيات توقفت، الطيران تعطل، والروزنامة الدولية انهارت.
في يونيو 2020، أعلن المكتب التنفيذي للاتحاد الإفريقي تأجيل البطولة من يناير 2021 إلى يناير 2022. أحمد أحمد، رئيس «كاف» حينها، كشف بوضوح أن ضيق الوقت، وعدم ضمان استكمال التصفيات، وانعدام الرؤية الصحية كانت الأسباب الرئيسية للتأجيل، لكن خلف الكواليس، كانت هناك أزمة أخرى لا تقل خطورة: عدم الجاهزية الكاملة للبنية التحتية في الكاميرون، تقارير الجودة تحدثت عن ملاعب غير مكتملة، ومناطق تحتاج إلى “اهتمام عاجل”، ما زاد من الضغوط على الاتحاد الإفريقي.

رغم كل ذلك، أصر باتريس موتسيبي، الذي تولى رئاسة “كاف” لاحقًا، في ديسمبر 2021 على إقامة البطولة دون تأجيل جديد، في موقف حاسم أنهى الجدل، أُقيمت البطولة أخيرًا في يناير 2022، وسط انتقادات وضغوط هائلة، لكنها انتهت بتتويج تاريخي للسنغال.
نسخة 2023.. التاريخ يعيد نفسه.. والأمطار تفرض كلمتها
لم تمضِ سوى أشهر قليلة على إسدال الستار عن نسخة الكاميرون، حتى وجد الاتحاد الإفريقي لكرة القدم نفسه غارقًا مجددًا في المأزق ذاته، وكأن دروس الماضي لم تُستوعب بعد، نسخة 2023، التي أُسند تنظيمها إلى كوت ديفوار، كانت في الأصل جزءًا من خطة تهدف إلى إعادة البطولة إلى فصل الصيف، وتحديدًا شهر يونيو، في محاولة جديدة لتخفيف الضغط عن منتصف الموسم الأوروبي، وإنهاء الصدام المستمر مع الأندية الكبرى، غير أن التفاؤل لم يدم طويلًا، إذ سرعان ما عادت المخاوف المناخية لتفرض نفسها على طاولة القرار داخل أروقة “كاف”.
الأمطار الصيفية الغزيرة في كوت ديفوار، والتي لا تقل حدة وتأثيرًا عن تلك التي تشهدها الكاميرون، أعادت إلى الأذهان سيناريوهات سابقة شهدت تدهورًا في أرضيات الملاعب، وتأثر جودة المباريات، وارتفاع معدلات الإصابات، ومع تصاعد التقارير الفنية والتحذيرات التنظيمية، بات واضحًا أن إقامة البطولة في يونيو قد تُعرّض سمعة الحدث القاري للخطر، أمام هذا الواقع، أعلن المكتب التنفيذي للاتحاد الإفريقي لكرة القدم تأجيل البطولة إلى يناير 2024، في قرار عكس مرة أخرى اعتماد الاتحاد الإفريقي على الحلول الاضطرارية بدل التخطيط الاستباقي طويل المدى.
وبهذا القرار، أصبحت كأس أمم إفريقيا تُقام للمرة الثانية على التوالي في منتصف الموسم الأوروبي، رغم أن المخطط الأصلي لنسخة 2023 كان صيفيًا بامتياز، صحيح أن البطولة في كوت ديفوار مرت دون أزمات تنظيمية كبرى، وظهرت بصورة جيدة نسبيًا من حيث الجاهزية والاستضافة، إلا أن هذا النجاح النسبي لم يُخفِ الحقيقة الجوهرية: كأس أمم إفريقيا تحولت إلى بطولة تُدار بمنطق إدارة الأزمات، لا بمنهجية التخطيط المستقر، فكل نسخة تنجو من أزمة آنية، لكنها تترك خلفها سؤالًا أكبر حول غياب رؤية زمنية ثابتة تحمي البطولة من التكرار المستمر لنفس السيناريو.
نسخة 2025.. كأس العالم للأندية يُربك الحسابات
مع قرار الاتحاد الإفريقي لكرة القدم سحب تنظيم نسخة 2025 من غينيا بسبب عدم الجاهزية، ومنح حق الاستضافة إلى المغرب بالإجماع، ساد شعور عام داخل الأوساط الكروية بأن “كاف” قد يكون وجد أخيرًا طريقه نحو الاستقرار التنظيمي، فالمغرب، الذي يعيش طفرة واضحة في البنية التحتية الرياضية، ويستعد للمشاركة في تنظيم كأس العالم حسب التقارير، كان يُنظر إليه بوصفه الرهان الآمن القادر على استضافة بطولة مستقرة زمنيًا وتنظيميًا، وكانت الخطة المعلنة تقضي بإقامة كأس أمم إفريقيا صيفًا، في يونيو ويوليو، بما يسمح بتفادي أزمات الأمطار الموسمية، ويمنح البطولة فرصة لتسويق نفسها سياحيًا ورياضيًا في توقيت مثالي.
غير أن هذا التفاؤل لم يدم طويلًا، إذ سرعان ما اصطدمت طموحات الاستقرار الإفريقي بواقع الأجندة العالمية، الاتحاد الدولي لكرة القدم “فيفا” أقر إقامة كأس العالم للأندية بنظامه الموسع، بمشاركة 32 فريقًا، في الولايات المتحدة خلال الفترة من 15 يونيو إلى 13 يوليو 2025، وهو نفس الإطار الزمني المخطط لإقامة كأس أمم إفريقيا في المغرب، هذا التداخل لم يكن تفصيلًا ثانويًا، بل تعارضًا مباشرًا بين بطولتين كبريين، إحداهما قارية تمثل إفريقيا، والأخرى عالمية تحظى بدعم وتسويق ضخم من «فيفا».

مع مشاركة أربعة أندية إفريقية في كأس العالم للأندية، ووجود عشرات اللاعبين الدوليين الذين يمثلون العمود الفقري لمنتخباتهم الوطنية، أصبح التعارض أمرًا حتميًا لا يمكن تجاهله، اللاعبون وجدوا أنفسهم مرة أخرى أمام خيار مستحيل بين التزامات النادي والمنتخب، بينما عاد «كاف» إلى نقطة الصفر، محاصرًا بمأزق جديد يعكس فقدانه السيطرة الكاملة على الروزنامة الدولية، وهكذا، حتى مع تغيير الدولة المضيفة وتوفر الجاهزية التنظيمية، ظلت الأزمة قائمة، لتؤكد أن المشكلة لم تعد في “من ينظم البطولة”، بل في “متى وكيف تُدار زمنيًا” بطولة كأس أمم إفريقيا.. تلك المرة الثالثة على التوالي التي تقام فيها البطولة بمنتصف الموسم الأوروبي، وكأن مسؤولي الكاف أدمنوا الصدام مع الأندية الأوروبية.
أزمة الأندية الأوروبية.. عندما تصطدم إفريقيا بجدار المصالح
بلغت أزمة توقيت كأس أمم إفريقيا ذروتها قبل نسخة 2021 التي نُظمت في 2022، حين تحولت الخلافات المكتومة بين الاتحاد الإفريقي لكرة القدم والأندية الأوروبية إلى صدام علني غير مسبوق، ففي خطوة تصعيدية، وجّه اتحاد الأندية الأوروبية خطابًا رسميًا إلى الاتحادين الدولي «فيفا» والإفريقي «كاف»، أعلن فيه صراحة رفضه إرسال اللاعبين الأفارقة المحترفين للمشاركة في البطولة المقررة إقامتها في الكاميرون.
السبب المعلن كان غياب الضمانات الصحية الكافية، وتنامي المخاوف المرتبطة بتفشي فيروس كورونا وظهور متحور «أوميكرون»، خاصة في ظل ضعف البنية الصحية ببعض دول القارة، لكن خلف هذا الخطاب، كانت تختبئ مخاوف أعمق تتعلق بالإرهاق البدني، والتأمين الطبي، والتأثير المباشر على جدول المباريات في منتصف الموسم الأوروبي، ما جعل الأزمة تتجاوز الإطار الصحي إلى صراع مصالح مكتمل الأركان.
لم تكن الأزمة نظرية أو إدارية فقط، بل ضربت قلب كرة القدم الأوروبية والعالمية، إذ تركزت حول أسماء لا يمكن تعويضها داخل أنديتها، محمد صلاح في ليفربول، ساديو ماني في نفس الفريق آنذاك، رياض محرز مع مانشستر سيتي، إدوارد ميندي حارس تشيلسي، وحكيم زياش، جميعهم كانوا مطالبين بالرحيل عن أنديتهم في توقيت بالغ الحساسية من الموسم، غياب هؤلاء النجوم لم يكن يعني فقط خسارة فنية للأندية، بل خسارة تسويقية واقتصادية في سباق الدوري ودوري أبطال أوروبا، ما زاد من حدة التوتر، ودفع الأندية للتعامل مع كأس أمم إفريقيا باعتبارها “عبئًا مفروضًا” أكثر منها بطولة قارية شرعية، وهو توصيف غير معلن لكنه كان حاضرًا بقوة في خلفية المشهد.

قبل نسخة 2025، عادت الأزمة مجددًا ولكن بصيغة أكثر هدوءًا وأشد تأثيرًا، لم تلجأ الأندية الأوروبية إلى الرفض العلني هذه المرة، لكنها استخدمت سلاحًا أكثر ذكاءً: الاحتفاظ باللاعبين لأطول فترة ممكنة قبل الالتحاق بالمنتخبات، ما انعكس سلبًا على جاهزيتهم البدنية والذهنية.
تقارير إعلامية كشفت بوضوح عن البعد النفسي للأزمة، مؤكدًا أن بعض اللاعبين باتوا مشتتين بين التزاماتهم مع النادي وطموحاتهم القارية، وهو ما خلق توترًا داخل غرف الملابس وأثر على الأداء، وتناولت التقارير نقطة في غاية الأهمية وهي أن كرة القدم باتت تسير نحو استنزاف خطير للاعبين، معتبرًا أن جميع الأطراف “تحلب نفس البقرة”على حد وصفهم دون مراعاة للحدود البشرية، في إشارة واضحة إلى أن الصراع حول كأس أمم إفريقيا لم يعد مجرد خلاف على موعد، بل أزمة بنيوية تهدد صحة اللاعب ومستقبل اللعبة نفسها.
الدوريات الإفريقية.. الخاسر الأكبر في المعادلة
في الوقت الذي تواصل فيه الدوريات الأوروبية الكبرى مسيرتها بشكل شبه طبيعي رغم غياب عدد من نجومها الأفارقة خلال فترة كأس أمم إفريقيا، تعيش الدوريات المحلية داخل القارة السمراء واقعًا مختلفًا تمامًا، فمع انطلاق البطولة القارية، تتوقف المسابقات الإفريقية بالكامل، لتدخل في حالة تجميد تمتد لشهر كامل أو أكثر، وهو ما ينعكس مباشرة على الجدول الزمني للموسم المحلي، هذا التوقف القسري يؤدي إلى تكدس المباريات لاحقًا، وتأجيل مواعيد نهاية الموسم، وتقليص فترات الراحة بين المواسم، ما يضع اللاعبين والأندية أمام ضغوط بدنية وتنظيمية متراكمة يصعب احتواؤها.
وسط هذا المشهد غير المتوازن، عبّر البلجيكي توم سينتفيت، المدير الفني لمنتخب مالي، عن غضب إفريقي مشروع، مؤكدًا أن كرة القدم لا تُدار من منظور أوروبي خالص، وأن القارة الإفريقية لها ظروفها المناخية والتنظيمية الخاصة التي يجب احترامها، تصريحات ساينتفيت عكست إحساسًا عامًا داخل المنتخبات الإفريقية بأن البطولات القارية تُعامل باعتبارها عنصرًا ثانويًا في الأجندة العالمية، رغم تأثيرها المباشر على مئات اللاعبين والأندية داخل القارة، الذين لا يملكون رفاهية الاستمرار في المنافسة بالتوازي كما تفعل الدوريات الأوروبية.

لكن، ورغم عدالة هذا الطرح، يبقى الواقع قاسيًا ومخيبًا، فالدوريات الإفريقية تستمر في دفع الثمن الأكبر؛ مسابقات تُجمد، مواسم تمتد دون تخطيط دقيق، ولاعبون يُستنزفون بدنيًا دون فترات تعافٍ كافية، وفي ظل غياب حلول جذرية من الاتحاد الإفريقي لكرة القدم، تستمر الحلقة المُفرغة.. بطولة تُرحّل، دوريات تتوقف، ولاعب يدفع وحده ثمن الفوضى الزمنية، بينما يظل الاستقرار حلمًا مؤجلًا في كرة القدم الإفريقية.
بطولة عظيمة.. بلا بوصلة زمنية
رغم تاريخها العريق وقيمتها الفنية والجماهيرية، لا تعاني كأس أمم إفريقيا من أزمة شعبية أو من تراجع في المستوى الفني، بقدر ما تعاني من أزمة أعمق وأكثر خطورة: غياب رؤية زمنية واضحة ومستقرة، بطولة تُدار بمنطق التأجيل الاضطراري أكثر من التخطيط المسبق، وتنتقل من موعد إلى آخر وفق الظروف لا وفق استراتيجية طويلة المدى، هذا الارتباك جعل كأس أمم إفريقيا تبدو وكأنها في حالة حركة دائمة، بلا محطة نهائية ثابتة، ما أفقدها أحد أهم عناصر الاستقرار في كرة القدم الحديثة.
لم يعد السؤال المطروح داخل الأوساط الكروية: هل تُقام البطولة صيفًا أم شتاءً؟ فهذا الجدل تجاوزه الواقع منذ سنوات، السؤال الحقيقي أصبح أكثر عمقًا وخطورة: هل يستطيع الاتحاد الإفريقي لكرة القدم استعادة السيطرة على الزمن؟ فالتقويم لم يعد مجرد تواريخ، بل هو أساس التخطيط الفني، والاقتصادي، والصحي، والبدني للاعبين والأندية والمنتخبات، ومع كل تأجيل جديد، تتآكل ثقة الأطراف المختلفة في قدرة “كاف” على إدارة أكبر حدث كروي في القارة وفق معايير الاستقرار والوضوح.
إلى أن تتبلور رؤية زمنية ثابتة وشجاعة، ستظل كأس أمم إفريقيا بطولة كبرى من حيث القيمة والرمزية، لكنها تعيش خارج موعدها الطبيعي، أسيرة للترحيل والتداخل والتأجيل، بطولة تصنع التاريخ داخل المستطيل الأخضر، لكنها خارجه تكافح من أجل تثبيت نفسها على خارطة الزمن الكروي العالمي، فإما أن يستعيد “كاف” بوصلة التخطيط، أو يستمر المشهد كما هو.. بطولة عظيمة بلا موعد مستقر لتظل كأس أمم إفريقيا بطولة كبرى تعيش خارج موعدها الطبيعي.

تعليقات