محمد دبور
ما أن تطفئ الحكومة الانتقالية في سوريا حريقا حتى يندلع آخر في مشهد يعكس التحديات الهائلة التي تواجها البلاد تحت الحكم الجديد. وتشهد السويداء حاليا اشتباكات ضارية بين مسلحين دروز وآخرين من القبائل البدوية في المنطقة على خلفية “توترات متراكمة خلال الفترات السابقة” حسبما أشارت وزارة الداخلية السورية. وهذه الاشتباكات – والتي خلفت أكثر من 200 قتيل حتى تاريخ 15 يوليو وفق المرصد السوري لحقوق الإنسان بما فيهم 93 عنصرا من وزارة الدفاع – تعيد إلى الأذهان سلسلة متجددة من الأحداث الدامية والتي كان الدروز طرفا فيها بدءا من اشتباكات مارس الماضي بين مسلحين دروز وعناصر من الأمن ومرورا بإعدامات ميدانية استهدفت الدروز في ابريل الماضي اتهم بارتكابها جماعات موالية للحكومة الجديدة.
يثير هذا المشهد تساؤلات على قدرة الحكومة الجديدة على فرض سيطرتها وضبط المشهد العام في البلاد وخاصة فيما يتعلق بالأقليات، ليس فقط لتحقيق السلم الأهلي والاستقرار الداخلي وإنما أيضا لدرء أي تدخلات خارجية وخاصة من قبل إسرائيل والتي من الواضح أنها تتخذ من الدروز قميص عثمان جديد لتبرير تحركاتها في الجنوب السوري ومهاجمتها لقوات الجيش السوري. ويكفي الإشارة هنا إلى سيل التعليقات الصادرة خلال اليومين الفائتين من كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين و”تحذيرهم” لدمشق من المساس بالدروز. لا بل وذهب أحد وزرائهم إلى المطالبة باغتيال الشرع نفسه!!
نعود ونسأل ثانية: هل الحكومة الانتقالية قادرة فعلا على ضبط المشهد في الجنوب؟ ليس من السهل التكهن بمسار الأحداث وخاصة في بلد مثل سوريا حيث يمر بمرحلة مخاض صعبة يزيد من تعقيدها أجندات دولية تتنازع فيما بينها لجذب البوصلة السورية بما يخدم مصالحها. ولعل نجاح أي جهد للحكومة السورية في السويداء يعتمد على مدى إدراكها للتعقيدات الكبيرة التي يحملها المشهد الدرزي والتي لا تشابه التحديات في مناطق سوريا الأخرى بما فيها مناطق نفوذ الأكراد. فالدروز يتمتعون بهوية دينية واجتماعية مستقلة وشبه منغلقة جعلتهم تاريخيا أكثر ميلا لإدارة شؤونهم بأنفسهم ومعارضة أي محاولة لفرض السلطة المركزية عليهم خاصة وأن تجاربهم مع الحكومات المركزية المتعاقبة في دمشق لم تكن بالودية في مجملها. وعلى الرغم من انفتاح الحكومة الجديدة على التحاور مع الطائفة الدرزية إلا أن تجدد الاشتباكات العنيفة بين الفينة والأخرى لا يهدد فقط بإحباط ما تحقق من تقدم إيجابي بين الجانبين وإنما يزيد أيضا من شعور الدروز بانعدام الثقة بقدرة النظام الجديد على حمايتهم ويعزز من إصرارهم على الحفاظ على تسليحهم أو التوسع فيه أو حتى الاستعانة بالخارج عسكريا. وما لم يتم استدراك الأمر بشكل سريع وناجع فإن العدوى قد تمتد لتشمل الأقليات الأخرى.
من هنا فإن على الحكومة القيام بعدة تدابير ضرورية وعلى رأسها استكمال عملية حل كافة الميليشيات المسلحة وإقناعها بتسليم سلاحها – وخاصة في المناطق الساخنة – أو دمجها ضمن الأجهزة الأمنية لإشعار الجميع بأن الأمن يتصدر أجندة عمل الحكومة وأن “يدها قادرة” على فرض هيبتها. وأما على الصعيد السياسي فإنه يتوجب عليها إظهار انفتاح أكبر على الطبيعة الخاصة للطائفة الدرزية والاستجابة لما أمكن من مطالبها المنبثقة من خصوصية هذه الهوية دون منح أي استثناءات خارج هذا الإطار لأن هذا قد يثير حفيظة الأقليات الأخرى خاصة وأن كل طرف يحاول تعظيم مكاسبه وترسيخها في أي مرحلة انتقالية.
على الحكومة أيضا أن تدرك أن إدارة المشهد الدرزي بمرونة وسرعة وحزم هو أمر لا يحتمل التأجيل ولا يقل أهمية بأي حال عن إدارتها للعلاقة مع أكراد سوريا. فصوت الأطماع الإسرائيلية في الجنوب السوري برمته وليس فقط في الجنوب الغربي أعلى من أن يتم التغاضي عنه أو اعتباره مجرد تكتيك إسرائيلي لتحقيق مكاسب استراتيجية. ويكفي أن ننظر إلى المواقف المتشددة التي يبديها حكمت الهجري الرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز في سوريا حيال الحكومة السورية الجديدة واتهاماته السابقة لها بـ “بتغذية التطرف ونشر العنف” ومعارضته لبيان التهدئة الأخير الذي أعلنته رئاسة الدروز في السويداء لنعلم أن الملف الدرزي هو القضية التي يجب أن تتصدر أولويات الحكومة حاليا.
على أن المسؤولية لا تقتصر على الحكومة وحدها. فالدروز أيضا مطالبون بإظهار المرونة والانفتاح على الحوار الجاد مع الحكومة ومنحها الوقت الكافي للعمل بعيدا عن التعنت والاستقواء بأطراف خارجية. كما وأنهم مدعوون إلى الاستماع إلى صوت العقل في السويداء وخارجها ونبذ الأصوات التي لا تمثل مصالحهم الحقيقية.
خلاصة القول إن على كلا الطرفين فهم حاجة الطرف المقابل لتحقيق التوازن بين الواقعية السياسية والأمنية وخصوصية الهوية للوصول إلى شراكة حقيقية. وكما هو الحال في كل المفاوضات فإن المرونة وحسن النوايا والقبول بحلول الوسط مطلوبة من الجميع. وبخلاف ذلك سيظل شبح الأحداث المؤسفة يطل برأسه وبوجه أشد بشاعة كل مرة.
كاتب أردني