أحمد رفعت.. قصة بدأت بنبض ملعب وانتهت بصمت قلب
في صباحٍ ثقيل مثل غيمةٍ معلّقة لا تريد أن تمطر، استيقظت الكرة المصرية على خبرٍ ليس كغيره، خبرٍ لم تتمنّ أن تسمعه يومًا، خبرٍ بدا كأنه كُتب بالدمع قبل أن يُكتب بالحبر، وفاة أحمد رفعت، لاعب مودرن سبورت، الجناح الذي كان يراوغ الحياة بخفة، ويجري خلف أحلامه كما لو أنه يطارد كرة لا تريد التوقف.
رحل رفعت، الذي دافع عن ألوان الزمالك والاتحاد والمصري، والذي حمل قميص الفراعنة ذات يوم بفخر، تاركًا خلفه 31 عامًا من البصمات، وبعض الدهشة، وكثيرًا من الألم.
لم يكن خبر رحيله مجرد عنوانٍ في نشرة رياضية، ولا فقرةً في برنامج صباحي؛ كان صدمة وطنٍ كامل، وجمهورٍ لطالما رأى في رفعت لاعبًا تحبه الكرة، وشخصًا يحبه الناس.
وما بين لحظة سقوطه الأولى في ملعب الإسكندرية، ولحظة رحيله التي كسرت القلوب، تمتد قصةٌ تمشي على خطّين: خطٌ طبيّ قاسٍ، وخطٌ إنسانيّ أشد قسوة.
أحمد رفعت.. نهاية حلم كان أكبر من الجسد
كانت المباراة تمضي نحو لحظاتها الأخيرة. الاتحاد السكندري يضغط، ومودرن سبورت يحاول الخروج بنقطة، كل شيء بدا عاديًا، إلى أن حدث ما لم يكن يخطر على بال أحد.

في لحظةٍ خاطفة، ومن دون مخالفة أو احتكاك، سقط أحمد رفعت أرضًا، سقط كما لو أن الأرض جذبت روحه قبل جسده؛ توقفت الأصوات، تجمّد زملاؤه، وارتفعت أيدي الجماهير إلى رؤوسها في ارتباك وذهول، لم يكن سقوط لاعب مصاب، كان سقوط إنسانٍ وقع بين الحياة والموت أمام عيون الجميع.
هرولت الأطقم الطبية، وحوصر الملعب بقلق لم يعرفه الدوري المصري منذ سنوات؛ الإغماء بدا غير مفهوم، التنفس غير مستقر، والقلب بلا نبض تقريبًا، سيارة الإسعاف اقتحمت المشهد، وكأنها تحمل آخر خيط بين رفعت وعالمه، وتم نقله وسط صمتٍ مرعب، بينما أنهى الحكم المباراة فورًا، وهو يدرك أن كرة القدم لم تعد تملك حق الاستمرار في تلك اللحظة.
الصراع الأول: قلب توقف ساعة ونصف.. ورجل يقاوم ليعود
في المستشفى، كان المشهد أقرب إلى معركةٍ على الوقت، الفحوصات تأتي كالصفعات، والأنباء تتساقط على المتابعين كما لو أنها قادمة من منطقة زلزال؛ قلب أحمد رفعت توقف لمدة تسعين دقيقة، وهي مدة تكفي لإنهاء مباراة كرة قدم، ولكنها أيضًا مدة قد تنهي حياة إنسان.
إنعاشٌ متواصل، صراعٌ مع الزمن، أطقم طبية تعمل كأنها تُجري عملية إعادة خلق، حتى عاد القلب؛ عاد ليقع الجميع في دمعةٍ متأخرة، بين شكرٍ لله، وبين ذهول مما جرى.
نُقل اللاعب إلى العناية المركزة، أجهزة تنفس، متابعة دقيقة لضربات القلب، محاليل، أسلاك، محاولات لاستعادة الوعي، كانت حياته خلال تلك الأيام تشبه الجري على حافة جبل، خطوة للخلف تُسقطه، وخطوة للأمام وعودته للحياة.

وخلال تلك الفترة، أصبحت غرفته وجهةً لنجوم الكرة المصرية، ولمسؤولين يشعرون بأن الشاب الذي يحارب داخل الغرفة يمكن أن يكون أي لاعب، أي ابن، أي أخ.
هـيثم عرابي، وليد دعبس، حسام حسن.. الجميع جاء؛ لم تكن زيارة عادية، بل كانت شهادة تقدير لرجل أحبّوه داخل الملعب وخارجه.
فصل العودة.. حين يعود الإنسان ولا يعود اللاعب
مرت الأسابيع… خرج رفعت من المستشفى، وفي أول ظهورٍ له تحدّث بعفوية رجلٍ هزم الموت مرة، وقال كلماته الشهيرة: “الحمد لله.. ربنا نجّاني، عدّيت المرحلة الصعبة، وحابب أشكر كل اللي دعالي وساعدني”.
كان يبدو منهكًا، لكنه كان حيًا، مبتسمًا، لكنه متألم، يعرف داخله أنه لن يعود قريبًا للملاعب، لكنه لم يكن يملك رفاهية إعلان الهزيمة. كان يحلم… ورجلٌ يحلم لا يُهزم بسهولة.
عاد إلى بيته، لوالدته التي كانت تصلي خلف باب المستشفى، ولأشقائه الذين عاشوا هلع الأيام الماضية، ولأصدقائه الذين كانوا يتظاهرون بالقوة كي لا ينهار أمامهم.
ومع الأيام، عاد للظهور الإعلامي، تحدث بصراحة، واعترف بأن الموسم قد انتهى بالنسبة له، لكنه حدّث الجمهور عن أمله في الموسم المقبل، كان يريد أن يركض ولو لمرة أخيرة، أن يلمس الكرة ليقول لنفسه إنه انتصر؛ لكن الواقع كان يحمل سيناريو آخر.

(تصوير: مصطفى الشحات)
الفصل الذي لم يُروَ: أزمة السفر.. وظلال ثقيلة على روحه
لم تهدأ العاصفة، تقارير إعلامية بدأت تتحدث عن أزمة في سفر اللاعب إلى الخارج للاحتراف في الوحدة الإماراتي، عن أوراق ناقصة، وعن إجراءات لم تتم، وعن مشاكل قانونية تتعلق بالتجنيد، كلها تفاصيل سقطت على روح أحمد رفعت كالمطارق.
تقول مصادر مقرّبة إنه شعر بالخذلان، شعر بالوحدة في لحظة كان يحتاج فيها كل دعم، شعر بأنه محاصر، وبحسب ما نُشر، فإن تلك الضغوط النفسية الثقيلة لعبت دورًا قاتلًا في تدهور حالته.
وكتب الدكتور جمال شعبان، عميد معهد القلب السابق، ما يشبه المرثية الطبية: “أحمد رفعت مثال حقيقي لمتلازمة القلب المكسور، قلبه انكسر بسبب الظلم والقهر، فأصيب بجلطة ثم عاد بمعجزة، لكن قلبًا مكسورًا لا يحتمل الكثير”.
كانت هذه الكلمات مرآة لواقعٍ لم يره الجمهور، الألم الذي لا يظهر على الشاشات، والضغوط التي لا تُذاع في نشرات الأخبار.
الليلة الأخيرة.. حين يزور الموت البيت قبل أن يأخذ ضيفه
كان يوم الجمعة هادئًا، حالته مستقرة. خرج من المنزل وشاهد نصف نهائي اليورو، عاد متفائلًا، تواصل مع أسرته، ونام ليلته كأي رجل أنهكته المعارك.
في صباح السبت، شعر بالجوع. نادى على والدته. طلب الطعام؛ ثم فجأة.. فقد الوعي، دقائق فقط فصلت بين الجوع والرحيل.
حاولت الأسرة الاستغاثة، نُقل إلى المستشفى، ولكن القلب هذه المرة لم يُنعش. توقّف كما لو أنه قال كلمته الأخيرة؛ توفي الشاب الذي نجا مرة، واستسلم مرة.
محطات في مسيرة أحمد رفعت
بدأ رفعت مشواره الكروي في قطاع ناشئي الأهلي وهو في الثامنة من عمره، قبل أن ينتقل إلى إنبي حيث بزغ نجمه وبدأت موهبته في لفت الأنظار.
مع إنبي، عرف طريقه لمنتخبات مصر الشباب، وشارك في بطولة أمم إفريقيا تحت 20 عامًا عام 2013، حيث لعب دورًا رئيسيًا في التتويج باللقب بعد صناعة هدف والتسجيل في ركلات الترجيح بالنهائي أمام غانا.
موهبته فتحت له أبوابًا أوروبية، إذ خاض فترات معايشة مع بازل السويسري وإشبيلية الإسباني، لكن المقابل المادي لم يرضِ إدارة إنبي، ما أدى لتجميد فرصة الاحتراف.
ورغم المشاركة في كأس العالم للشباب وصناعة هدف في الفوز التاريخي أمام إنجلترا، لم ينجح المنتخب في تجاوز دور المجموعات، فتضاءلت فرص انتقال رفعت لأوروبا.
ثم انضم رفعت إلى الزمالك في 2016، وخاض معه 26 مباراة سجل خلالها 4 أهداف وصنع 3، بينها هدف شهير قاتل في شباك الداخلية وبصمة في تتويج الفريق بالسوبر المصري بركلات الترجيح أمام الأهلي.

لكن حقبته مع الزمالك لم تطل، ليخرج معارًا إلى إنبي ثم الاتحاد السكندري حيث قدّم واحدًا من أفضل مواسمه بتسجيل 7 أهداف وصناعة 8.
انتقل رفعت إلى المصري عام 2020، ثم إلى مودرن سبورت، حيث تألق مجددًا مما دفع البرتغالي كارلوس كيروش لضمه لمنتخب مصر بعد غياب طويل.
أحمد رفعت واللحظات الخالدة في كأس العرب: حين وُلد الضوء مرتين
في شتاء 2021، وبينما كانت الجماهير العربية تبحث عن بطل جديد يضخّ شيئًا من الدهشة في بطولة جمعت شغف القارة بأسرها، ظهر اسم أحمد رفعت كوميضٍ جاء من العمق، لاعب لم يكن في تلك اللحظة ضمن دائرة النجومية العريضة، لكنه حمل شيئًا لا يملكه غيره: حضور اللحظة.
لم تكن مباراة مصر والسودان مجرد مواجهة عابرة في دور المجموعات. كانت مباراة اختبار، مباراة تبحث فيها مصر عن شخصية، وعن صوت قوي يعلن حضورها الحقيقي، فدخل الفراعنة اللقاء بعد فوز بشق الأنفس على لبنان بهدف يتيم من ركلة جزاء.
بدأ اللقاء سريعًا، وفي الدقائق الأولى كتب شهادة ميلاده، ركلة حرة سددها بدقة لكن العارضة تصدت لها، وبينما أخرجها المدافع ظنًا أنه أنهى الخطر، كانت البداية، حيث أطلق رفعت تصويبة مقوسة بدت كأنها جزء من لوحة، كرة خرجت من قدمه بخفة فراشة ودقة قنّاص، تدور في السماء قبل أن تستقر في المقص الأيسر للمرمى السوداني.
🚀 قذيفة صاروخية من 🇪🇬 أحمد رفعت!#LetItFly مع #QatarAirways@QatarAirwaysAR | @EFA | #FIFArabCup pic.twitter.com/LTt6LmAIG0
— كأس العالم FIFA 🏆 (@fifaworldcup_ar) December 5, 2021
ذلك الهدف لم يدخل الشباك فقط، بل دخل ذاكرة البطولة كأحد أجمل أهدافها، وانتقل مباشرة إلى قلوب الجماهير، ليصنع أول خيط في علاقة عشق لم تنقطع.
اللحظة الثانية.. دخلت مصر مباراة الأردن في ربع النهائي وهي محاصرة بالقلق. خصم شرس، أداء منظم، ووقت يهرب. كانت مصر تبحث عن منفذ، عن فكرة، عن لاعب يستطيع تحريك الظلال الساكنة داخل المباراة.
وفي لحظة ضغط ورغبة وإرهاق، كان هناك أحمد رفعت، كرة عرضية داخل منطقة الجزاء، ارتباك في دفاع الأردن، ثم تظهر قدم رفعت بخفة، بثقة، وكأنها تعرف الطريق قبل أن تلمس الكرة.
لم يسدد بقوة، بل سدد بذكاء، بتوقيت يشبه توقيعه الشخصي؛ لتسكن الكرة الشباك وتتحول المباراة ويقود دفة الفراعنة للمربع الذهبي.
مرّت السنوات، وازدادت قسوة الأيام، وواجه رفعت أزمات لم يكن أحد يتوقعها، لكن يبقى ما قدّمه في كأس العرب شاهدًا على لاعب لم يكن عابرًا، على جناح امتلك لحظات قليلة، لكنه صنع منها تاريخًا صغيرًا، جميلًا، ودافئًا بما يكفي ليظل في الذاكرة.
رحيل أحمد رفعت.. الرجل الذي عاش بين السقوط والقيام
ربما لم يكن أحمد رفعت نجمًا عالميًا، لكنه كان نجمًا في قلوب المصريين، كان حكاية رجلٍ سقط، فقام، فابتسم، ثم رحل. حكاية لاعبٍ أحبّ الكرة حتى آخر نبض، وترك لنا درسًا قاسيًا مفاده أن اللاعب ليس مجرد جسد يجري في الملعب، بل إنسان يحمل همومه، ضعفه، خوفه.. وقلوب البشر أحيانًا تنكسر قبل أن تتوقف.
رحل رفعت، لكن قصته ستبقى، لأن بعض القصص لا تُكتب بالحبر، بل تُكتب بالوجدان؛ رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه جناته، وترك لنا ذكرى لاعبٍ كان يستحق أن يعيش أكثر، وأن يفرح أكثر، وأن يُصفَّق له أكثر.

تعليقات