معجزة الدقيقة 90.. أيرلندا وإسكتلندا في رحلة جنونية نحو كأس العالم

معجزة الدقيقة 90.. أيرلندا وإسكتلندا في رحلة جنونية نحو كأس العالم


في عالم كرة القدم، لا يوجد ما يضاهي اللحظات التي تشعر فيها بقشعريرة تسري في جسدك، خاصة عندما يتعلق الأمر بكأس العالم، تلك اللحظات التي تأخذك إلى عالم آخر، حيث يصبح الزمن غير ذي أهمية وتكاد لا تدرك ما حولك من فرط الإحساس؛ لحظات تجعلك تعانق خصمك من شدة الفرح، وتعيد إليك ذكريات لم تكن لتصدقها إلا في أحلامك.

ولكن ماذا لو كانت تلك اللحظات تأتي بعد سنوات من الأمل الضائع، بعد أن ظن الجميع أن الحلم بات بعيدًا جدًا؟ في تلك اللحظات، تتحقق المعجزة، وتثبت أن الأمل يمكن أن يولد حتى في أعمق الظلمات.

معجزة أيرلندا بأقدام باروت

هذه أول مرة أبكي فيها منذ سنوات.

– تروي باروت.

التقطت عينا تروي باروت المتورمتان الحمراوان وصوته المرتجف فرحة أمة بأكملها، كان قد أكمل لتوه ثلاثية مذهلة “هاتريك” في فوز جمهورية أيرلندا خارج أرضها على المجر بنتيجة 3-2، مختتمًا إياها بهدف في الوقت بدل الضائع انتزع من وصيف المجموعة السادسة مكانه في الملحق الأوروبي من منافسيه الذين كانوا بحاجة إلى التعادل فقط لضمان التأهل.

كان مشهد باروت مدفونًا تحت جبل من زملائه وطاقمه التدريبي المبتهجين على أرض بودابست أمرًا لا يُصدق قبل أسبوع.

بعد هزيمة نكراء بنتيجة 2-1 خارج أرضه أمام أرمينيا في سبتمبر – فريق كان مصنفًا في المركز 105 عالميًا آنذاك وخسر 9-1 أمام البرتغال في وقت المعجزة نفسها – احتاجت أيرلندا إلى سلسلة من النتائج التي لم يتوقعها الكثيرون للحفاظ على آمالها في كأس العالم.

ما حدث كان أحد أكثر الأسابيع إثارةً وإثارةً وإلهامًا في تاريخ كرة القدم الأيرلندية.

تروي باروت – المصدر (Gettyimages)

يوم الخميس، هتفت الجماهير المحلية المتحمسة بفوزٍ ساحقٍ على البرتغال بنتيجة 2-0، وانفجرت فرحةً عندما طُرد نجم الفريق الزائر، كريستيانو رونالدو، بسبب تدخله على المدافع دارا أوشيا.

سجل باروت هدفي أيرلندا في تلك المناسبة أيضًا، لكن الأسبوع كان حافلًا بالروح الجماعية، مع العديد من المساهمات المميزة في جميع أنحاء الملعب.

قال المدرب هيمير هالجريمسون بعد الفوز على المجر، والذي يجعل أيرلندا على بُعد فوزين فقط في تصفيات مارس من التأهل لأول مرة إلى كأس العالم منذ عام 2002: “لا ينبغي أن تكون هذه اللحظة فرصةً للعثور على الأبطال؛ بل يجب أن تكون هذا الفريق، والروح، والوحدة، والعمل الجاد الذي أظهره اللاعبون”.

بدأ الأمل يتلاشي منذ أن خسر الأيرلندييون أمام أرمينيا في سبتمبر الماضي، وبالرغم من العودة والثأر في أكتوبر، بعدما نجح المنتخب في الفوز على الفريق ذاته بهدف دون رد، إلا أن الخسارة أمام البرتغال بين اللقاءين، عقدت من حظوظ أيرلندا في التأهل ولو للملحق، حيث أبعدت البرتغال بالصدارة.

وبات الأمل ضعيف للغاية أمام الشعب الأيرلندا الذي سيستقبل في نوفمبر منتخب البرتغال ذاته، والذي يطمح لحسم تأهله مباشرةً إلى المونديال، ثم سيذهب خارجًا لملاقاة المجر، والتي انتهت مباراة الذهاب بينهما في دبلن بالتعادل الإيجابي.

المثير للدهشة، أن أيرلندا كانت قد تعادلت أمام المجر في سبتمبر في اللحظات الأخيرة، رغم أن الأخير لعب قرابة شوط كامل منقوص العدد، وذلك عندما سجل البديل آدم أيداه هدفًا قاتلًا في الدقيقة الثالثة من الوقت المحتسب بدل من الضائع.

الإصابة أبعدت إيفان فيرجسون، مهاجم روما، والذي سجل ثلاثة من أصل 4 أهداف سجلتها المجر في التصفيات قبل آخر مباراتين، بينها هدفًا من ثنائية أيرلندا أمام المجر، والهدف الوحيد في الخسارة أمام أرمينيا 2-1، ثم هدف انتصارهم على أرمينيا، وكأن القدر كان يخطط لضربته الكبرى.

دخلت أيرلندا مواجهتي البرتغال والمجر الأخيرتين، بحثًا عن معجزة، وفي غياب مهاجمهم وهدافهم الأول، إلا أن المدرب هيمير هالجريمسون وضع ثقته الكاملة في  تروي باروت، وأشركه أساسيًا للمرة الثانية فقط في التصفيات.

ونجح باروت في تسجيل هدفي أيرلندا أمام البرتغال، ليشعل معركة بودابست، والتي دخلها المنتخب الأيرلندي ولا بديل عن الفوز من أجل خطف بطاقة التأهل للملحق الأوروبي المؤهل لنهائيات المونديال.

وجاءت اللحظة التي انتظرها الشعب الأيرلندي بفارغ الصبر، 90 دقيقة فقط تحمل آمال شعب كامل، بعدما أيقظهم باروت نفسه أمام البرتغال، في اللقاء الأصعب بالمجموعة، وكان تروي في الموعد.

المجر سجلت أولًا، ورد باروت بعدها بعشر دقائق، ثم عادت المجر للتقدم مجددًا قبل نهاية الشوط الأول، ثم جاءت لحظة ما قبل العاصفة، عندما عدّل باروت النتيجة قبل النهاية بعشر دقائق فقط.

وبينما كان الجميع ينتظر صافرة حكم المباراة ليعلن توديع الآمال، ومواصلة التشاؤم الذي كان يُحضر له الشعب الأيرلندي، جاء باروت من جديد كبطل خارق يحمل الدولة بأكملها إلى الملحق، بعدما سجل هدفًا قاتلًا في الدقيقة السادسة بعد التسعين.

لا يزال امام أيرلندا طريق آخر نحو التأهل للمونديال، ولكن حجز بطاقة الملحق، بمثابة فرصة أخيرة لتحقيق الحلم الأكبر، ولكن بلا شك ستظل واحدة من أكثر ليالي الأيرلنديين جنونًا على الإطلاق، ربما تتخطى جنونهم حال التأهل لمونديال 2026.

إسكتلندا تصنع التاريخ بطريقة لا تصدق

كعادة مشوار كأس العالم، لابد من الجنون، لا توجد أي تصفيات مونديالية إلا وأتت بما هو غير متوقع، إسكتلندا التي لم تتأهل إلى كأس العالم منذ نسخة 1998، كان لها نصيب الأسد هذه المرة، وأمام من؟ الدنمارك.

كانت إسكتلندا تسير بقوة نحو التأهل مباشرة إلى كأس العالم، بعد البداية القوية خارج الديار بالتعادل أمام الدنمارك سلبيًا، ثم الفوز على روسيا البيضاء 2-0.

وواصل المنتخب الأسكتلندي مشواره بالفوز على اليونان 3-1 وروسيا البيضاء مجددًا 2-1، إلى أن جاء السقوط الغير متوقع، بعد الخسارة أمام اليونان إيابًا بثلاثة أهداف لهدفين.

جاءت لحظة الحسم الأخيرة، الجميع على أهبة الاستعداد، والمدرجات تمتلئ بالشعب الإسكتلندي الذي ينتظر الوصول إلى نهائيات المونديال لأول مرة بعد 28 عامًا.

الجميع من لاعبي المنتخب الأول لم يكن متواجدًا عندما تأهلت إسكتلندا آخر مرة، دخلوا اللقاء أمام خصم يكفيه التعادل فقط، وليس أي خصم، الدنمارك صاحبة الحظوظ الأكبر.

بدأت الحرب سريعًا، وافتتح سكوت ماكتوميناي، التسجيل في الدقيقة الثالثة بهدف رائع من ضربة مقصية سيُخلّد في ذاكرة كرة القدم في البلاد.

بدا مكتوميناي وكأنه يتحدى الجاذبية، حيث حلق عاليًا في الهواء ليقابل عرضية بن غانون-دوك بركلة مقصية لم تترك لحارس مرمى الدنمارك كاسبر شمايكل أي فرصة.

أدرك راسموس هويلوند التعادل للدنمارك من ركلة جزاء في الشوط الثاني، قبل أن يُطرد زميله راسموس كريستنسن ببطاقة صفراء ثانية في الدقيقة 61.

اشتعلت الأجواء في ملعب هامبدن بارك، حيث لورانس شانكلاند الهدف الثاني لأصحاب الأرض وأشعل المدرجات من جديد في الدقيقة 78، ولكن رد عليه باتريك دورجو بعد أربع دقائق فقط.

كانت الدنمارك بحاجة إلى التعادل فقط لتتصدر المجموعة الثالثة وتتأهل، وبينما انتهت الدقائق الـ90 بتلك النتيجة، وربنا ذهب بعض من جماهيرهم للاحتفال مبكرًا، كان لأصحاب الأرض رأي آخر.

بدأ الأمر بتسديدة كيران تيرني في الدقيقة الثالثة من الوقت بدل الضائع لتسكن مرمى شمايكل، لتمنح الشعب الإسكتلندي قبلة الحياة.

وبينما تقدم جميع لاعبو الدنمارك بحثًا عن التعديل في الثوان الأخيرة، جاء الدور على كيني ماكلين، ليسدد كرة من قبل خط منتصف الملعب، لتسكن شباك شمايكل المتقدم، وتتطير بالحلم الإسكتلندي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، دون الدخول في معترك الملحق من جديد.

“بصراحة، أعتقد أننا كنا سيئين للغاية، لكن من يهتم؟ لقد حركت الدنمارك الكرة بشكل أفضل وبدت أكثر ثقة، حتى مع لعبها بعشرة لاعبين”.

“تظن أن هذا هو كل شيء، فشل مجيد مرة أخرى، فكرت: ‘لا، ليس مجددًا’، يا لها من ضربة من كيران تيرني! لن أشعر بهذا الشعور أبدًا في ملعب كرة قدم مرة أخرى”.

“عندما سجلنا، قال الحكم إنه لا يزال هناك خمس دقائق، فقلت في نفسي: ‘لا أستطيع تحمل هذا!’! بصراحة، لم أستطع الحركة، شعرت بالغضب. كان الجهد الذي بذلناه مذهلًا – الدنمارك فريق رائع حقًا”.

– جون ماكجين.

لقطت عدسات الكاميرا القائد ونجم ليفربول أندرو روبرتسون، والذي ذرف دموعًا لم يذرفها طيلة حياته، وهو يقول بصوت يكاد لا يُسمع من ضجيج المدرج.

“هذا يُلخص أداء هذا الفريق، لا نستسلم أبدًا. سنواصل العمل حتى النهاية، ونخوض واحدة من أكثر المباريات جنونًا”.

“لقد صعّبنا الأمور على البلاد، لكنني متأكد من أن الأمر يستحق العناء، نحن ذاهبون إلى كأس العالم”.

“لقد أخفيت الأمر جيدًا، لكنني اليوم كنت في حالة يرثى لها، أعرف عمري، قد تكون هذه فرصتي الأخيرة للذهاب إلى كأس العالم”.

– أندرو روبرتسون.

ما حدث في هامبدن بارك لم يكن مجرد مباراة، بل كان ملحمة كروية تُجسد عظمة الروح الرياضية، وقوة الإرادة، وصدق العزيمة؛ حينها جاءت اللحظة الأخيرة، لحظة الجنون الكروي، الأمل الذي لا يموت، وإسكتلندا التي صنعت التاريخ بطريقتها الخاصة.