أهداف لا تُسجَّل في الشباك.. حين تصبح كرة القدم أكثر من مجرد لعبة

أهداف لا تُسجَّل في الشباك.. حين تصبح كرة القدم أكثر من مجرد لعبة


هناك لحظات في كرة القدم تتوقف فيها عقارب الزمن.. يختفي الصخب، يصمت المعلّق، ويتراجع البريق خلف دمعةٍ تلمع في عين طفلٍ صغير، أو ابتسامةٍ باهتة على وجه مشجعٍ عجوزٍ كان يظن أن الفوز هو غاية اللعبة.

لكن في الحقيقة، كرة القدم لم تكن يومًا مجرد لعبة مكسبٍ وخسارة، فهي أكثر من ذلك بكثير، إنها ذاكرة جماعية، ولغة عالمية لا تحتاج إلى ترجمة، وميدانٌ تلتقي فيه الإنسانية بكل تجلياتها.

في لحظةٍ ما، يتجاوز صوت الهتاف ضجيجَ المدرجات، وتتساقط الشعارات، وتبقى الإنسانية وحدها ترفع الكأس، هناك، حيث تختلط الدموع بالتصفيق، وتتحول المستديرة إلى مرآةٍ صادقة تعكس ما في قلوب البشر، نكتشف أن كرة القدم ليست مجرد منافسةٍ على لقبٍ أو هدفٍ يُسجَّل، بل رسالةٌ خالدة عن الرحمة، والوفاء، والتكاتف، والأمل.

جماهير فريق زاخو (المصدر:Gettyimages)

في زمنٍ يركض فيه العالم خلف المادة والمصالح، تظل كرة القدم تنبض بالمعنى الأسمى: أن نكون بشرًا قبل أن نكون مشجعين، وأن نمنح الحياة لمن يحتاجها ولو بصرخة من المدرجات، تبقى بعض اللقطات شاهدةً على أن هذه اللعبة العجيبة قادرة على أن تروي قصصًا تُبكينا قبل أن تُفرحنا، وأن تُعيدنا إلى جوهرنا الإنساني وسط زحام الصُراخ والنتائج.

من زاخو إلى العالم… جمهور علّمنا أن التشجيع رسالة

في الشمال العراقي، حيث تختلط صيحات التشجيع بدفء الأرواح، كتب جمهور نادي زاخو فصلاً نادرًا في كتاب الإنسانية، لم يكتفِ هؤلاء العشاق بالغناء خلف فريقهم، بل جعلوا من المدرجات منبرًا للحياة نفسها، في يوم الثالث عشر من مايو 2025، كان ملعب زاخو الدولي على موعدٍ مع واحدةٍ من أكثر اللقطات الإنسانية إلهامًا في تاريخ الكرة العربية.

حين أطلق الحكم صافرة البداية، تساقطت من السماء آلاف دمى الأطفال الملونة، لا لتصنع مشهدًا احتفاليًا، بل لتروي حكاية تضامنٍ مع أطفالٍ لا يعرفون اللعب إلا بين جدران المستشفيات، تلك الدمى لم تكن مجرد ألعاب، بل كانت رسائل أمل إلى مرضى السرطان الصغار.

انتهت المباراة، لكن الدموع لم تنتهِ.. جميع تلك الدمى جُمعت ووزعت على الأطفال المرضى، ليُثبت جمهور زاخو أن الكرة لا تُلعب بالأقدام فقط، بل تُعاش بالقلوب.

وفي مشهدٍ آخر لا يقل روعة، رفعت جماهير الفريق العراقي لافتةً ضخمةً تحمل أعلام كل الدول العربية، وكُتب عليها “المحبة والسلام”، تأكيدًا على أن هذه اللعبة وُجدت لتوحّد لا لتفرّق.

ولأن النبل لا يضيع، كان الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) أول من انتبه لتلك اللفتة النادرة، فرشّح جمهور زاخو رسميًا لجائزة أفضل جمهور في العالم، كتب الفيفا على موقعه الرسمي:

مشجعو زاخو أظهروا أن الحب يمكن أن يُلقى من المدرجات كما يُلقى الهدف في الشباك”.

ولعل أكثر ما جعل هذه الجماهير تستحق التحية هو أنها لم تكن المرة الأولى التي تنحاز فيها إلى الإنسانية؛ ففي يوم وفاة النجم البرتغالي جوتا، كانت الجماهير العربية الوحيدة التي رفعت له لافتة وداعٍ مهيبة، لتقول للعالم إن الوفاء لا يُقاس بالألوان، بل بالمشاعر.

مشجع صن داونز.. يد أنقذت خصمًا من الموت

من شمال العراق إلى جنوب إفريقيا، هناك مشاهد لا تُنسى لأنها تتجاوز المنطق، في مباراة الترجي التونسي وماميلودي صن داونز ضمن ربع نهائي دوري أبطال إفريقيا، اشتعلت المدرجات وبدأ التدافع، وسط الفوضى، كان مشجع تونسي يتشبث بالحافة الحديدية لأعلى مدرج، على وشك السقوط وسط صرخات الرعب.

في تلك اللحظة، لم يكن هناك شعارٌ ولا لونٌ ولا هوية، كان هناك إنسان يرى إنسانًا آخر يواجه الموت، اندفع أحد مشجعي صن داونز، يُدعى سيبونسيو ماسانجو، نحو الرجل، مدّ يده دون تردد وأنقذه قبل أن يهوي من ارتفاع شاهق.

حكى ماسانجو لاحقًا المشهد بتفاصيله قائلًا:

في البداية، ظن الرجل أنني أقترب لأدفعه، لكنه بدأ يتوسل قائلًا: من فضلك لا تفعل، لديّ ثلاثة أطفال، عندها لم أفكر في أي شيء، أمسكت بيديه بقوة، وسحبته بكل ما أملك من طاقة”.

كانت تلك الكلمات كفيلة بسكب دموع كل من تابع اللقطة، ففي لحظةٍ واحدة، صمت التشجيع وارتفع صوت الحياة، لم يعد أحد يهمّه من سيفوز بالمباراة، لأن النصر الحقيقي تحقّق في تلك اليد التي منعت الموت.

كريستيانو رونالدو.. نجم يضيء خارج الملعب

في عالم النجوم والأضواء، قلّما يحتفظ الكبار ببساطتهم، لكن كريستيانو رونالدو كسر القاعدة، فبينما يقف الملايين لتحيته بسبب مهاراته، يقف آخرون احترامًا لإنسانيته، لم ينسَ يومًا فتاة الـ”هامبرجر” التي كانت تقدم له الطعام مجانًا حين كان طفلًا فقيرًا في لشبونة، فبحث عنها وردّ الجميل في مشهدٍ جمع بين الوفاء والاعتراف.

وفي لحظاتٍ أخرى، أظهر “الدون” وجهه الإنساني الأعمق: تبرّع بملايين الدولارات لبناء مخيمات لأطفال سوريا، وباع حذاءه الذهبي عام 2011 في مزادٍ خُصص ريعه لبناء مستشفيات في غزة، كما حوّل فنادقه إلى مستشفياتٍ لعلاج مرضى كورونا عام 2019.

كريستيانو رونالدو - النصر (المصدر: GETTYIMAGES)
كريستيانو رونالدو – النصر
(المصدر: GETTYIMAGES)

ولم يكتفِ بذلك، بل رفض رسم أي وشمٍ على جسده حتى يتمكن من التبرع بالدم باستمرار، هكذا يكون النجم الذي يفهم أن البطولة الحقيقية ليست في عدد الأهداف، بل في حجم الأيادي التي امتدت بسببه نحو الحياة.

فينيسيوس جونيور.. حين يُهزم الظلام بالمحبة

في زمنٍ تتصاعد فيه نبرات العنصرية، اختار فينيسيوس جونيور أن يواجه الكراهية بالحب والعطاء، لم يكن ردّه على الإساءات بالكلمات، بل بالفعل، تبرّع بـ4 ملايين يورو لتحويل مدرسة مغلقة في البرازيل إلى مركز اجتماعي يُعنى بتعليم الأطفال الفقراء الرياضة والعلم مجانًا.

وبينما يلمع نجمه في مدريد، ظل قلبه في قريته الصغيرة، حيث تكفّل بتعليم مئات الأطفال غير القادرين، لقد جعل من النجاح طريقًا للخير، ومن موهبته وسيلةً لنشر الأمل.

وفي زمن الأزمات، لا يكون الصمت خيارًا.. لذلك قرر المصري سام مرسي والهولندي المغربي أنور الغازي أن يحوّلا المستطيل الأخضر إلى منصةٍ للإنسانية، نظّما مباراةً خيريةً في الأول من يونيو الماضي، خُصصت كل عائداتها لدعم أطفال غزة، في موقفٍ نبيل يُظهر أن الضمير لا يعرف حدود الجغرافيا ولا اختلاف الأندية.

الإنسانية… الهدف الذي لا يُسجَّل في الشباك

من زاخو إلى بريتوريا، ومن مدريد إلى غزة، تتعدد القصص، ويتأكد لنا أن الكرة لا تنتهي عند صافرة الحكم، إنها كائنٌ حي، ينبض بالمشاعر، ويُذكّرنا كل يوم أن هناك أهدافًا أهم من التسجيل والانتصار وتبقى الرسالة واحدة.

كرة القدم ليست لعبةً تُربح فيها النقاط فقط، بل ميدانًا تُختبر فيه القيم والمشاعر، خلف كل هدفٍ هناك قلبٌ ينبض، وخلف كل مدرجٍ هناك قصة حبٍّ للإنسان قبل الفريق.

قد ننسى من فاز ومن خسر، لكننا لن ننسى من أعاد لنا الإيمان بأن المستديرة ليست كرةً تُركل فقط… بل نبضٌ يوحّد العالم حين يصبح القلب هو الحكم الوحيد.

إن كرة القدم، حين تُمارَس بقلوبٍ نقية، تُصبح وسيلةً لإحياء الأمل، ونافذةً للسلام، ومرآةً نرى فيها أجمل ما فينا كبشر، لذلك، حين تُسجَّل الأهداف في الشباك، هناك أهداف أخرى تُسجَّل في القلوب.. وحين تصبح الكرة أكثر من مجرد لعبة، تبدأ الإنسانية في تسجيل أجمل انتصاراتها.