الثقافة التنظيمية في القطاع العام

شارك هذه المقالة مع أصدقائك!


هل يمكن أن تنجح أي خطة لتطوير القطاع العام من دون أن تغير ثقافته من الجذور؟ وهل يمكن بناء إدارة حديثة فعالة بمجرد تغيير التعليمات أو إصدار التشريعات؟ الواقع، أن التغيير الحقيقي لا يبدأ من الورق، بل من العقول، فالتغيير يبدأ من الثقافة المؤسسية التي تحكم سلوك الموظف العام، وتوجه علاقته مع المواطن، ومع المؤسسة الحكومية التي يعمل بها.وفي هذا السياق، تأتي حملة “خدمتكم واجبنا” التي أُطلقت في رئاسة الوزراء كخطوة عملية ضمن خريطة تحديث القطاع العام، فهذه الحملة تجسيد فعلي لرؤية تتكامل مع مسارات التحديث السياسي والاقتصادي، إذ ما يميز هذه الحملة هو تركيزها على الثقافة المؤسسية باعتبارها محورًا أساسيًا من محاور التحديث، لا يمكن تجاوزه أو القفز عليه.لكن ما المقصود فعليًا بالثقافة المؤسسية في هذا السياق؟ إنها ليست فقط الالتزام بقواعد السلوك أو تحسين بيئة العمل، كما أنها تحول عميق في القيم والمفاهيم التي تحكم علاقة الموظف العام بوظيفته، فهل يرى الموظف نفسه قادرا على خدمة المواطن؟ وهل يشعر بأن عليه مسؤولية تجاه مؤسسته الحكومية؟ وهل يتعامل مع عمله كرسالة، أم كواجب روتيني؟ هذه الأسئلة هي التي تجيب عنها الحملة من خلال إعادة تشكيل المفاهيم، وليس فقط عبر التدريب أو رفع الكفاءة، بل من خلال ترسيخ القيم المهنية.ولماذا هذه الثقافة ضرورية الآن؟ لأن مفهوم الخدمة العامة يتغير بصورة جذرية في ظل التحولات العالمية المتسارعة والمتطلبات المتزايدة للمواطنين، إذ لم تعد الحكومة تقاس بضخامة أجهزتها أو عدد موظفيها، بل بقدرتها على التحول إلى منظومة خدمات ذكية ومرنة، حيث تقوم على الكفاءة والعدالة والفعالية، وهذه المنظومة لا يمكن أن تُبنى إلا إذا كان من يقف خلفها يؤمن بها ويمارسها.المشروع الوطني لتحديث القطاع العام، لا يُنفذ من أعلى فقط، بل من خلال شراكة شاملة بين مؤسسات الدولة كافة، ويُترجم على الأرض بخطوات نوعية وملموسة، وأهم هذه الخطوات تبني نموذج الثقافة المؤسسية، الذي يمثل أداة تطبيقية تمكن المؤسسات من تجسيد القيم الوطنية في الأداء اليومي، وتوضح أن الشفافية والعدالة وخدمة المواطن ليست شعارات بل التزامات سلوكية.والسؤال، هل تكفي السياسات العامة وحدها لتحقيق هذا التحول؟ الإجابة لا، فالتعليمات والاستراتيجيات لن تنجح إذا لم تكن هناك ثقافة مؤسسية توجه سلوك الموظف، وتبني جسور الثقة بين الحكومة والمواطن، وبين الفرد ومؤسسته، ومن هنا، فإن تعزيز هذه الثقافة يجب أن يكون جزءاً أصيلاً من سياسات إدارة الموارد البشرية في الدولة.ختاماً، الثقافة المؤسسية هي الإطار الذي تبنى عليه الإدارة الفعالة، وهي التي تضمن استمرارية الإصلاح، وهي التي تحول القيم من شعارات إلى ممارسة، وإذا كنا جادين في الوصول إلى خدمات ترتقي إلى طموح المواطن، فلا طريق لذلك إلا من خلال تغيير حقيقي في ثقافة العمل العام وإدخال التكنولوجيا بشكل كامل، والارتقاء بالموظف ليكون شريكاً في مشروع وطني كبير، لا مجرد منفذ لتعليمات.



‫0 تعليق

اترك تعليقاً