ملحمة الألفية الجديدة – لأننا في عصر الكرة النسائية السعودية.. كانت كل القيود مُقدَّر لها أن تُكسر

ملحمة الألفية الجديدة – لأننا في عصر الكرة النسائية السعودية.. كانت كل القيود مُقدَّر لها أن تُكسر


لم تكن كرة القدم النسائية في السعودية يومًا مجرد لعبة غائبة عن الملاعب، بل كانت فكرة مؤجلة، أشبه بسؤال لم يُسمح له أن يُطرح من الأساس.

قبل خمسةٍ وعشرين عامًا، لم يكن المشهد يتسع لامرأة داخل ملعب كرة قدم، لا لاعبة، ولا مشجعة، ولا حتى جزءًا من الصورة. لم تكن هناك مدرجات تُمنع عنها النساء فقط، بل خيالٌ جمعي كامل لم يكن مستعدًا لتقبّل الفكرة.

في ذلك الزمن، لم يكن غياب الكرة النسائية استثناءً رياضيًا، بل نتيجة منطقية لبنية اجتماعية ترى الرياضة مساحة ذكورية خالصة، وترى مشاركة المرأة فيها خروجًا عن المألوف، لا مشروعًا يمكن تطويره.

ولهذا السبب، لم تولد كرة القدم النسائية في السعودية داخل الملاعب، بل في الهامش، في الصمت، في المحاولات الفردية الصغيرة التي لا يراها أحد.

لكن التاريخ الرياضي، مثل المجتمعات، لا يتغير بالقفز، بل بالتراكم،وما يبدو اليوم مسارًا واضحًا ومؤسسيًا، كان قبل ربع قرن حلمًا هشًا، لا يملك حتى لغة يدافع بها عن نفسه.

قبل أن يصبح الحلم مشروعًا.. كرة تُلعب بلا اعتراف

حتى نهاية العقد الأول من الألفية الجديدة، كانت ممارسة كرة القدم النسائية في السعودية محصورة في نطاقات ضيقة وغير رسمية.

مدارس أهلية، أندية مغلقة، أو مساحات تدريبية لا تحمل أي صفة قانونية أو تنظيمية.

لم تكن هناك مسابقات، ولا روزنامة، ولا اتحاد يشرف، ولا مسار تصاعدي للاعبات. كانت هناك فقط رغبة في اللعب، تصطدم دائمًا بسقف غياب الاعتراف.

في تلك المرحلة، لم تكن المشكلة في غياب الإمكانيات فقط، بل في غياب الفكرة نفسها من المجال العام. لم يكن هناك نقاش حول تطوير كرة القدم النسائية، لأن النقاش ذاته لم يكن مطروحًا، ولهذا ظل الحلم معلقًا، موجودًا في الخيال أكثر من الواقع.

الاعتراف يسبق التنظيم.. حين فتحت الرياضة بابها الأول

عام 2012، حدث أول كسر حقيقي للجدار، عندما شاركت الرياضيتان السعوديتان وجدان علي سراج وسارة العطار في أولمبياد لندن.

لم تكن كرة القدم جزءًا من تلك المشاركة، لكن الرسالة كانت أوسع من لعبة بعينها: المرأة السعودية يمكن أن تكون حاضرة في المشهد الرياضي العالمي.

هذه اللحظة لم تغيّر الواقع مباشرة، لكنها غيّرت اللغة، منذ تلك النقطة، لم يعد السؤال: «هل يجوز؟»، بل بدأ يتحول تدريجيًا إلى: «كيف؟ ومتى؟ وبأي شكل؟»

التجربة قبل الإعلان.. سنوات البحث عن الصيغة

بين عامي 2018 و2020، دخلت كرة القدم النسائية في السعودية مرحلة شديدة الأهمية: مرحلة التجريب المنظم.
ظهرت دوريات محدودة في الرياض ثم جدة، بمشاركة فرق قليلة، وانتشار جغرافي ضيق، لكنها كانت أول محاولة لاختبار الفكرة على الأرض.

في فبراير 2020، أطلق الاتحاد السعودي للرياضة للجميع دوريًا مجتمعيًا للسيدات بمشاركة 24 فريقًا من مختلف المناطق.
لم يكن دوريًا احترافيًا، لكنه كان اختبارًا اجتماعيًا بقدر ما كان رياضيًا: هل سيستمر؟ هل سيجد قبولًا؟ هل ستُكمل اللاعبات المسار؟ والإجابة جاءت واضحة: نعم.

لحظة التحول الكبرى.. عندما قالت المؤسسة كلمتها

في نوفمبر 2021، أعلن الاتحاد السعودي لكرة القدم إطلاق أول دوري رسمي للسيدات.

لم يكن الإعلان مجرد خبر رياضي، بل إعلان نية. الدولة قررت أن تضع كرة القدم النسائية داخل المنظومة الرسمية، بنفس قواعد التنظيم، والحوكمة، والتخطيط.

هنا تغيّر كل شيء، لم تعد الكرة النسائية تجربة، بل مشروعًا، ولم تعد اللاعبات هاويات، بل محترفات محتملات.

بدأ الدوري بنظام المناطق، ثم تطور سريعًا إلى الدوري السعودي الممتاز للسيدات، بمشاركة أندية كبرى، ولوائح احتراف، وعقود، وانتقالات، ومنافسة حقيقية.

الدوري كمرآة للتحوّل الاجتماعي

ما يميز الدوري السعودي للسيدات أنه لم يكن مجرد مسابقة رياضية، بل مرآة لتحول اجتماعي أوسع.
المدرجات التي كانت مغلقة، أصبحت مفتوحة، الحضور الجماهيري، وإن كان محدودًا في البداية، بات مشهدًا طبيعيًا، واللاعبة السعودية لم تعد استثناءً، بل صورة مألوفة.

هذا التحول لم يكن سهلًا، ولم يحدث بلا مقاومة، لكنه كان تدريجيًا، ذكيًا، ومؤسسيًا، وهو ما سمح له بالاستمرار.

الاحتراف المتعدد الجنسيات.. حين أصبحت السعودية وجهة

بحلول موسم 2024–2025، دخل الدوري مرحلة جديدة من النضج.

أكثر من 200 لاعبة مسجّلة، يمثلن أكثر من 20 جنسية، بين أوروبا، إفريقيا، وأمريكا الجنوبية.

ملامح الدوري السعودي للسيدات

الإحصائية الرقم
عدد اللاعبات +200
عدد الجنسيات 20+
الأندية المشاركة 8
المشاركات القارية تصفيات آسيا

وجود هذا العدد من اللاعبات الأجنبيات لم يكن مجرد إضافة رقمية، بل نقل خبرات، ورفع نسق اللعب، وصناعة تنافسية حقيقية.

حين تتكلم الأرقام.. محترفات يصنعن الفارق

لم يعد حضور اللاعبات الأجنبيات في الدوري السعودي للسيدات مجرد إضافة شكلية، بل تحوّل إلى عامل حاسم في صناعة الفارق داخل الملعب، سواء على مستوى النتائج أو الأداء أو حتى هوية الفرق فنيًا.

ومع اتساع قاعدة الاستقطاب وتنوع الجنسيات، أصبحت الأرقام هي اللغة الأدق لقياس التأثير الحقيقي لكل محترفة، بعيدًا عن الانطباعات العامة.

في هذا التقرير، نرصد بالأرقام مساهمة المحترفات في أربعة أندية كبرى: النصر، الهلال، الاتحاد، والأهلي، مع تحليل أدوارهن الهجومية والدفاعية، ومدى انعكاس ذلك على توازن الفرق وطموحاتها التنافسية.

محترفات النصر – الهيمنة الهجومية بتوقيع برازيلي

اللاعبة المركز المباريات أساسي أهداف تمريرات حاسمة بطاقات صفراء بطاقات حمراء
كاثلين سوزا قلب دفاع 24 24 3 9 3 0
دودا فرانسيلينو وسط محور 43 28 21 8 4 0
نسرين بهلولي وسط محور 21 13 4 9 5 1
أندريا فاريا وسط دفاعي 7 5 3 1 0 0
كلارا لوفانجا مهاجم صريح 29 29 25 13 7 0
روث كيبوي جناح أيمن 29 27 13 14 5 0

تعكس أرقام النصر فلسفة واضحة قائمة على الضغط الهجومي والاستحواذ في مناطق الخصم. كلارا لوفانجا تمثل رأس الحربة المثالي، ليس فقط بـ25 هدفًا، بل أيضًا بـ13 تمريرة حاسمة، ما يكشف عن مهاجمة تشارك في البناء لا تنتظر الكرة داخل الصندوق فقط.

في العمق، تبرز دودا فرانسيلينو كأكثر لاعبة تأثيرًا شاملًا، إذ سجلت 21 هدفًا من مركز محور، وهو رقم استثنائي يعكس قدرة النصر على تحويل لاعبة الوسط إلى ماكينة تهديف، أما كاثلين سوزا، فقلب الدفاع الذي صنع 9 أهداف، فتجسّد التحول الحديث في أدوار المدافعات داخل الكرة النسائية.

محترفات الهلال – تنوع هجومي مقابل تذبذب الاستمرارية

اللاعبة المركز المباريات أساسي أهداف تمريرات حاسمة بطاقات صفراء بطاقات حمراء
نويليا جيل حارس مرمى 3 3
كلوديا دابدا قلب دفاع 19 18 1 0 6 0
خيرة حمراوي وسط محور 7 7 1 0 0 0
مريم بنكيران وسط دفاعي 14 11 1 0 2 0
لامار أبوسمرة وسط محور 2 0 0 0 0 0
غزلان الشباك مهاجم صريح 7 6 0 1 0 0
جيسيكا مارتينيز جناح أيمن 17 17 14 2 4 0
شوخان نور الدين مهاجم 20 17 8 4 2 0
مافيس أووسو جناح أيسر 17 9 7 7 1 0
جيسيكا سيلفا مهاجم 6 6 4 3 1 0
أسيسات أوشوالا مهاجم 7 7 6 2 0 0

يمتلك الهلال أكبر تنوع هجومي عدديًا، لكنه يعاني من تفاوت الاستمرارية والمشاركة. جيسيكا مارتينيز تتصدر المشهد بـ14 هدفًا، مؤكدة أنها الجناح الأكثر حسمًا، بينما تضيف أوشوالا وسيلفا حلولًا هجومية فورية رغم قصر عدد المباريات.

لكن في المقابل، يظهر ضعف الإسهام التهديفي من لاعبات الوسط والدفاع، ما يضع عبئًا كبيرًا على الخط الأمامي، ويجعل الهلال أكثر اعتمادًا على لحظات فردية بدل المنظومة المتكاملة.

محترفات الاتحاد – فعالية تهديفية بأقل عدد

اللاعبة المركز المباريات أساسي أهداف تمريرات حاسمة بطاقات صفراء بطاقات حمراء
زالا ميرشنيك حارس مرمى 13 13
أشلي بلامبتر قلب دفاع 24 23 7 14 2 0
ماريا دياز وسط محور 7 7 1 0 0 0
ليلي إسكندر وسط مهاجم 18 14 6 2 0 0
ليتيسيا نونيز مهاجم صريح 24 23 22 3 5 0
فرانسيسكا أورديجا مهاجم 13 8 7 3 2 0

الاتحاد يعتمد على الكفاءة لا الكثرة. ليتيسيا نونيز سجّلت 22 هدفًا من 24 مباراة، بنسبة تهديفية عالية جدًا، فيما تلعب أشلي بلامبتر دورًا هجوميًا غير تقليدي من قلب الدفاع بـ14 تمريرة حاسمة، وهو رقم يوازي أرقام صانعات ألعاب.

ورغم المعاناة الدفاعية للحارسة ميرشنيك (23 هدفًا في 13 مباراة)، فإن الاتحاد يعوّض ذلك بقدرة هجومية عالية على الحسم.

محترفات الأهلي – القوة الضاربة في الهجوم

اللاعبة المركز المباريات أساسي أهداف تمريرات حاسمة بطاقات صفراء بطاقات حمراء
شارلين ميونغ وسط محور 7 5 0 2 1 0
فريدة حنفي وسط محور 29 29 2 5 5 0
نعومي كاباكابا جناح أيسر 27 27 33 13 5 0
أليس كوسي جناح أيمن 26 25 7 15 6 0

يمتلك الأهلي أخطر لاعبة هجوميًا في الدوري، نعومي كاباكابا، التي ساهمت بـ46 هدفًا مباشرًا (33 هدفًا + 13 صناعة)، وهو رقم يضعها في قمة الهرم التهديفي بلا منازع.

هذا بالإضافة إلى أليس كوسي، صانعة اللعب من الطرف، بـ15 تمريرة حاسمة، ليشكّل الأهلي ثنائي أطراف يصعب إيقافه. ورغم محدودية الإسهام التهديفي من الوسط، فإن الكفاءة العالية للأجنحة تعوض ذلك بوضوح.

ويبقى العامل الحاسم مستقبلًا هو قدرة كل نادٍ على تحويل هذه الأرقام إلى ألقاب، لأن الداتا وحدها لا تكفي، ما لم تُترجم داخل الملعب.

ما تحت القمة.. الاستثمار في القاعدة

بالتوازي مع تطوير الدوري، عمل الاتحاد السعودي على بناء قاعدة واسعة تشمل:دوري المدارس (أكثر من 77 ألف طالبة، ومنتخبات سنية، وخمس مسابقات رسمية.

قاعدة المشاركة

المؤشر الرقم
طالبات دوري المدارس 77,000+
الرياضيات المسجلات 330,000+

هذه الأرقام تؤكد أن المشروع لا يقوم على القمة فقط، بل على قاعدة ممتدة.

الاقتصاد يدخل اللعبة.. من الدعم إلى الصناعة

في 2025، تجاوزت الاستثمارات في كرة القدم النسائية 50 مليون ريال، خُصصت لتطوير الملاعب، الأكاديميات، ومراكز التدريب.
هنا انتقلت الكرة النسائية من منطق الدعم إلى منطق الاستدامة الاقتصادية.

كرة تتجاوز المستطيل الأخضر

اليوم، لم تعد كرة القدم النسائية في السعودية مجرد لعبة. أصبحت أداة تغيير، ومساحة تمثيل، ورمزًا لتحول أوسع في علاقة المجتمع بالرياضة والمرأة.

ربع قرن.. ولم تنتهِ الحكاية

ما حدث خلال 25 عامًا لم يكن طفرة، بل مسارًا طويلًا من التدرّج، من فكرة غير مطروحة إلى دوري محترف إلى استثمار… إلى مشروع وطني، اليوم، لم يعد السؤال عن شرعية الوجود، بل عن سقف الطموح، والإجابة، حتى الآن، تقول: هذه ليست النهاية، بل البداية.