من الرفاهية إلى الضرورة.. كيف غيّر المدرب الأجنبي ملامح الكرة السعودية خلال 25 عامًا؟
قبل خمسةٍ وعشرين عامًا، كان التعاقد مع مدرب أجنبي في السعودية يُصنّف بوصفه رفاهية فنية أو “إضافة شكلية” إلى مشروع يقوده المدرب المحلي، الذي يمتلك مفاتيح غرفة الملابس ويعرف تفاصيل اللاعب والبيئة والضغوط.
اليوم، تغيّر المشهد جذريًا؛ لم يعد المدرب الأجنبي خيارًا تكميليًا، بل تحوّل إلى ضرورة بنيوية في منظومة التطوير، ووسيطٍ لنقل الفكر التكتيكي، ومحركٍ للتحديث، ومرآةٍ تقيس بها الكرة السعودية طموحها القاري والعالمي.
هذا التقرير يرصد حصاد 25 سنة من التحوّل، بلغة رقمية وتحليلية على طريقة 365scores، محاولًا الإجابة عن سؤال مركزي: لماذا غاب المدرب المحلي عن الواجهة، ولماذا أصبح الأجنبي هو القاعدة لا الاستثناء؟
— من المؤتمر الصحفي للمدير الفني للمنتخب الوطني إيرڤي رينارد واللاعب نواف بوشل 📸#معاك_يالأخضر | #FIFArabCup pic.twitter.com/EB1PHuCq3L
— المنتخب السعودي (@SaudiNT) December 14, 2025
المنتخب السعودي.. مرآة التحوّل وضغط الخيارات
قد تكون تجربة المنتخب السعودي المثال الأوضح، أكثر من 51 مدربًا مرّوا على الأخضر، بين محلي وأجنبي، في مسيرة عكست حجم الضغط وقسوة التوقعات. أسماء عالمية مرّت وخرجت، وأخرى صنعت محطات لا تُنسى.
الأرجنتيني جابرييل كالديرون تأهل إلى كأس العالم 2006 دون هزيمة، قبل أن يُقال بعد خسارة قاسية في غرب آسيا، الهولندي بيرت فان مارفيك أعاد المنتخب إلى المونديال بعد غياب 12 عامًا، مسجلًا اسمه في التاريخ رغم رحيله قبل روسيا 2018.
في المقابل، عاد اسم ناصر الجوهر أكثر من مرة كحلٍ محلي إسعافي، لا كمشروع طويل الأمد، المفارقة أن المحلي حضر غالبًا في لحظات الفراغ، بينما الأجنبي قاد محطات الإنجاز أو حمل عبء التطوير.
قبل 25 سنة المحلي في الصدارة.. والأجنبي ضيف
في مطلع الألفية الجديدة، كانت الصورة العامة للمشهد التدريبي في الكرة السعودية تميل بوضوح لصالح المدرب المحلي، الذي كان يُنظر إليه بوصفه صاحب الشرعية الفنية والأقدر على إدارة التفاصيل اليومية داخل الفريق.
امتلك المدرب المحلي حينها عناصر قوة لا يُستهان بها، أبرزها الفهم العميق لثقافة اللاعب السعودي، والقدرة على التواصل المباشر دون حواجز لغوية أو فكرية، إضافة إلى مهارة إدارة النجوم والتعامل مع الضغوط الجماهيرية والإعلامية.
في المقابل، كان حضور المدرب الأجنبي غالبًا ذا طابع تكميلي، يقتصر دوره على تحسين بعض الجوانب الفنية أو إدخال لمسات تدريبية محدودة، دون أن يُمنح مفاتيح المشروع الكامل أو يُنظر إليه باعتباره قائد ثورة شاملة داخل المنظومة الكروية.
غير أن كرة القدم لم تبقَ على حالها، فقد شهدت اللعبة خلال العقدين الأخيرين تحولات عميقة شملت تسارع الإيقاع، وتطوّر أساليب التنظيم الدفاعي والهجومي، وظهور مفاهيم الضغط العالي، والانتقال السريع، والتحليل الرقمي، وإدارة الأحمال البدنية، وهي أدوات لم تكن متجذرة في البيئة التدريبية المحلية بالعمق نفسه.

أندية صنعت الفارق.. عندما قاد الأجنبي التحول
ومع اتساع الفجوة المعرفية بين ما يحدث في كبرى الدوريات العالمية وما يُطبق محليًا، بدأ ميزان الثقة يميل تدريجيًا، حتى تحوّل المدرب الأجنبي من ضيف عابر إلى خيار مفضّل، ثم إلى ضرورة مفروضة بواقع التطور.
جروس الأهلي.. الأرقام تنطق بالمنهج
عند الحديث عن التحول الحقيقي الذي قاده المدرب الأجنبي في الدوري السعودي للمحترفين، يبرز اسم السويسري كريستيان غروس كأحد أبرز النماذج وأكثرها تأثيرًا.
فبلغة الأرقام، يتصدر غروس قائمة المدربين الأكثر فاعلية ممن خاضوا 50 مباراة فأكثر، بعدما قاد الأهلي في 94 مواجهة، جمع خلالها 216 نقطة، بمعدل استثنائي بلغ 2.30 نقطة في المباراة الواحدة.
غير أن ما حققه المدرب السويسري لم يكن محصورًا في حصد الألقاب الثلاثة التي توّج بها مع “الراقي” – الدوري، كأس ولي العهد، وكأس الملك – بل تجاوز ذلك إلى ترسيخ منهجية تدريب واضحة، وتطوير مستويات عدد كبير من اللاعبين، وفرض انضباط تكتيكي صارم انعكس تأثيره لاحقًا على المنتخب السعودي نفسه، سواء من حيث الجاهزية الذهنية أو الفهم الجماعي للملعب.
رازفان لوشيسكو الهلال.. إدارة البطولات لا المباريات
في الهلال، جسّد الروماني رازفان لوشيسكو نموذج المدرب القادر على التفكير بمنطق البطولات، لا بمنطق المباراة الواحدة. خلال موسمين فقط، قاد “الزعيم” للتتويج بلقب الدوري السعودي، وكأس الملك، ودوري أبطال آسيا، محققًا معدل 2.24 نقطة في المباراة، وهو رقم يعكس استمرارية الأداء لا مجرد نتائجه.
نجاح لوشيسكو لم يكن وليد المصادفة، بل نتاج قراءة دقيقة لإمكانات لاعبيه، وإدارة ذكية للضغوط، وقدرة على تدوير الفريق دون المساس بهويته التنافسية، ليترك بصمة واضحة في أحد أكثر الأندية السعودية تطلبًا للنجاح.
ميشيل برودوم.. موسم بلا هزيمة
أما البلجيكي ميشيل برودوم، فقد ارتبط اسمه بواحد من أكثر المواسم استثنائية في تاريخ الدوري السعودي، عندما قاد الشباب للتتويج بلقب موسم 2011–2012 دون أن يتعرض لأي خسارة.
بنسبة انتصارات بلغت 73%، بنى برودوم فريقًا متماسكًا ذهنيًا ومنضبطًا تكتيكيًا، اعتمد على التنظيم قبل الاندفاع، وعلى الواقعية قبل المجازفة، ليُقدّم نموذجًا مكتمل الأركان لمشروع فني ناجح امتد أثره إلى ما بعد منصة التتويج.
فيتوريا النصر.. الاستقرار يصنع الفارق
وفي النصر، أعاد البرتغالي روي فيتوريا الفريق إلى منصات التتويج بعد سنوات من الغياب، مؤكدًا أن الاستقرار الفني، حين يُقترن بفكر تدريبي واضح، قادر على تحويل الإمكانات إلى إنجازات.
تجربة فيتوريا كشفت أن المدرب الأجنبي، عندما يُمنح الوقت والصلاحيات، يستطيع بناء فريق تنافسي مستدام، لا يعتمد على ردود الأفعال بل على التخطيط طويل المدى.

أسماء حفرت تاريخًا قاريًا
ولا يمكن قراءة تاريخ المدربين الأجانب في السعودية دون التوقف عند الروماني أنجيل يوردانيسكو، الاسم الذي ارتبط بإنجاز قاري مزدوج ظل عصيًا على كثيرين من بعده.
يوردانيسكو قاد الهلال للتتويج بدوري أبطال آسيا عام 2002، ثم كرر الإنجاز ذاته مع الاتحاد في 2005، ليصبح المدرب الوحيد الذي حقق اللقب القاري الأهم في آسيا مع ناديين سعوديين مختلفين.
هذا النجاح لم يكن مجرد تفوق فني، بل عكس قيمة الخبرة الأوروبية في إدارة التفاصيل الكبرى، والقدرة على التعامل مع المباريات الحاسمة بعقلية بطولية.
لماذا تقدّم الأجنبي وتراجع المحلي؟
تقدّم المدرب الأجنبي في المشهد السعودي لم يكن قرارًا عاطفيًا أو انبهارًا بالمدرسة الأوروبية، بل نتيجة منطقية لمسار تطوري فرض أدوات جديدة.
فقد جاء الأجنبي حاملًا معه منهجيات حديثة في بناء اللعب، والضغط، والتحولات، والتحليل الرقمي، وهي عناصر أصبحت جزءًا لا يتجزأ من كرة القدم الحديثة.
إلى جانب ذلك، أسهم في تغيير الثقافة اليومية داخل الأندية، من حيث الانضباط، وإدارة الوقت، ورفع معايير الاحترافية، وهي تفاصيل تبدو صغيرة في ظاهرها، لكنها صنعت أثرًا تراكميًا كبيرًا.
كما أن وجوده خلق ضغطًا تنافسيًا ومعرفيًا، دفع اللاعبين للتطور، والإدارات للبحث عن الأفضل، في سباق لم يعد يسمح بالاجتهاد الفردي فقط.
ماذا يملك المحلي؟ ولماذا لم يكفِ؟
رغم ذلك، لم يكن المدرب المحلي خالي الوفاض. فقد امتلك دائمًا ميزة الفهم العميق للبيئة الكروية السعودية، والقدرة على التواصل الفعّال مع اللاعبين، والحفاظ على الهوية المحلية داخل الملعب.
غير أن هذه المزايا اصطدمت بجملة من التحديات، أبرزها قلة الخبرة التراكمية في إدارة البطولات الكبرى، والضغوط الإعلامية والجماهيرية الهائلة، إضافة إلى التدخلات الإدارية وغياب الاستقرار طويل المدى.
ونتيجة لذلك، أصبح حضور المدرب المحلي غالبًا مؤقتًا أو إسعافيًا، لا قائمًا على مشروع فني متكامل يمتد لسنوات.
هل المشكلة في الكفاءة أم في المنظومة؟
يبقى السؤال الجوهري مطروحًا، هل تراجع المدرب المحلي نابع من ضعف فردي، أم من خلل منظومي؟ الواقع يشير إلى أن التطوير الحقيقي لا يُبنى على الأفراد فقط، بل على منظومة متكاملة تشمل التعليم، وتراكم الخبرات، ومنح الفرص الحقيقية، وتوفير الحماية من الإقالة السريعة.
دون هذه السلسلة، سيظل المدرب المحلي أسير الظل، مهما امتلك من طموح أو معرفة.
ساعة تفصلنا عن مباراة أخضر “تحت 23 عام” ومنتخب الإمارات ضمن نصف نهائي كأس الخليج 2025 ⏰! 🇸🇦×🇦🇪
لنتعرف سويًا على قائمة اللاعبين 💪🔥.__ يمكنكم مشاهدة المباراة عبر قنوات الكأس 📺 .#معاك_يالأخضر | #كأس_الخليج_تحت23 pic.twitter.com/hd7Mz0vcR3
— المنتخب السعودي (@SaudiNT) December 14, 2025
الأجنبي ضرورة.. والمحلي مشروع مؤجل
حصاد 25 عامًا من التحولات يؤكد أن المدرب الأجنبي لم يعد ترفًا في الكرة السعودية، بل شرطًا أساسيًا لمواكبة لعبة تتسارع بلا هوادة. غير أن هذا الواقع لا يعني إلغاء دور المدرب المحلي، بقدر ما يؤجله إلى حين بناء قاعدة معرفية صلبة تؤهله للعودة من بوابة الاستحقاق لا المجاملة.
فالمعادلة المثالية اليوم لا تقوم على صراع بين المحلي والأجنبي، بل على شراكة واعية، يقود فيها الأجنبي المشروع وينقل الفكر، بينما يتعلّم المحلي ويشارك ويتدرّج داخل بيئة مستقرة تحمي القرار الفني، عندها فقط، قد يعود المدرب المحلي، لا كحلٍ مؤقت، بل كخيار أول.

تعليقات