جوارديولا وفيرجسون.. الفارق بين رحيل يصنع إمبراطورية وآخر يهدمها

جوارديولا وفيرجسون.. الفارق بين رحيل يصنع إمبراطورية وآخر يهدمها


في عالم كرة القدم، ليست البطولة وحدها ما يصنع الأسطورة، ولا عدد الكؤوس وحده ما يبني إرث المدرب، بل اللحظة التي يقرر فيها الرحيل، وتوقيت المغادرة، والطريقة التي يترك بها الفريق من بعده، فهناك مدرب يخرج من الباب الكبير تاركًا خلفه بناءً مستقرًا قادرًا على الاستمرار، وهناك من يغادر مشهد المجد بينما الفريق الذي من المفترض أن يستكمل الرحلة ينهار فورًا بعده، ليظهر السؤال الحقيقي: هل كان النجاح نجاحًا للمدرب أم للنادي؟

بين هذين النموذجين، يقف اسمان من أكبر أساطير التدريب في التاريخ الحديث: بيب جوارديولا والسير أليكس فيرجسون، كلاهما بنى مجدًا لا يقارن، وكلاهما قاد نادياً إلى أوج قوته، لكن أحدهما اختار أن يرحل بحكمة ومسؤولية، بينما الآخر رحل في لحظة احتفالية شخصية، تاركًا فريقًا فقد روحه وجوهره منذ اللحظة الأولى بعد مغادرته. ومن هنا تبدأ المفارقة.. مقارنة بين مدرب يرى المستقبل، وآخر اكتفى بأن يكون هو المستقبل.

بيب جوارديولا - مانشستر سيتي (المصدر:Gettyimages)
بيب جوارديولا – مانشستر سيتي
(المصدر:Gettyimages)

جوارديولا.. الأسطورة التي رفضت أن يغادر بينما بيته يشتعل

كانت الخطة واضحة داخل مانشستر سيتي في نهاية الموسم الماضي: بيب سيرحل، القرار لم يكن سريًا داخل النادي، بل كان معروفًا لدى الإدارة واللاعبين وحتى بعض الصحفيين المقربين، الرجل وصل إلى مرحلة التشبع، وقدّم للنادي ما لم يقدمه أحد قبله، بدا أن اللحظة المناسبة للرحيل قد حانت، لحظة يترك فيها مشروعًا ضخمًا يلمع في كل زاوية من زواياه.

لكن الواقع على الأرض كان مختلفًا، جوارديولا، رغم مظهره العقلاني، رجل شديد الحساسية تجاه تفاصيل الفريق، بدأ يرى خطوطاً تتفكك: دفاع غير مستقر، وسط فقد سيطرته المعتادة بإصابة بيدري، هجوم يفتقد الحلول، وتراجع بدني وفني ينذر بأن الفريق قد يدخل في دورة انهيار، لم يحتمل الرجل فكرة أن يترك النادي في وضع مهتز، أو أن يتسلم المدرب التالي فريقًا ناقصًا يحتاج إلى ترميم قبل أن يبدأ أي بناء حقيقي.

نوفمبر الماضي حدث الانقلاب في قرار بيب

لكن كل هذا انهار في لحظة، في نوفمبر الماضي حدث الانقلاب.. قرار التجديد جاء فجأة من بيب يبدو الأمر عاطفيًا، لكنه في الحقيقة قرار مبني على قناعة فنية وأخلاقية بأن وقت الرحيل لم يحن بعد، السبب الجوهري كان واضحًا: جوارديولا لا يريد أن يغادر بينما الفريق على حافة الانهيار أو غير قادر على المنافسة حتى نهاية الموسم، فضلًا عن الموسم التالي.

وعندما حصل على موافقة الإدراة على دعم انتقالات يناير 2025، تغير كل شيء، وصول لاعبين مثل عمر مرموش وخوسانوف كان بمثابة طوق نجاة أعاد التوازن إلى مجموعة مراكز كانت على وشك الانهيار، المعالجة السريعة لثغرات الفريق جعلت بيب يشعر بأنه أوقف النزيف، وأنه هيأ الأرض لمن سيأتي بعده.

بيب جوارديولا - مانشستر سيتي (المصدر:Gettyimages)
بيب جوارديولا – مانشستر سيتي (المصدر:Gettyimages)

واليوم، مع استقرار معظم المراكز وتجديد دماء الفريق، تظهر مؤشرات جديدة من نفس المصادر الصحفية بأن مغادرته نهاية الموسم احتمال واقعي، جوارديولا ربما يترك السيتي وهو في أفضل وضع ممكن، بعد أن أصلح ما يجب إصلاحه، وكأنه يريد أن يغادر وهو مطمئن أن الجدار الذي بناه لن يسقط بمجرد أن يغلق الباب خلفه.

السير أليكس.. نهاية أسطورية دفعت مانشستر يونايتد إلى الهاوية

على الجانب الآخر من الحكاية، يقف فيرجسون كنموذج معاكس تمامًا، الرجل الذي صنع إمبراطورية مانشستر يونايتد، غادر عام 2013 بعد 27 عامًا مع مانشستر يونايتد في مشهد لا يُنسى، وسط احتفال جماهيري وإعلامي هائل، رحل وهو بطل الدوري، رحل والأساطير تتحدث عنه، ورحل وهو متوَج في قلوب الملايين، لكن وسط هذا المجد، كانت الحقيقة المرة: المدرب خرج وحده كأسطورة.. بينما الفريق نفسه كان يحتضر.

عند رحيله، لم يترك فيرجسون فريقًا مستعدًا للمستقبل، ترك مجموعة مرهقة، كبارًا في السن، بلا عمق، وبلا مواهب جاهزة لقيادة الجيل التالي، لم يكن في الفريق سوى روني وفان بيرسي، والبقية كانوا بعيدين تمامًا عن مستوى المنافسة الحقيقية.

كريستيانو رونالدو - أليكس فيرجسون - كارلوس تيفيز - مانشستر يونايتد - المصدر: (Getty images)
كريستيانو رونالدو – أليكس فيرجسون – كارلوس تيفيز – مانشستر يونايتد – المصدر: (Getty images)

ورغم أن رحيله كان لحظة تاريخية، فإن ما تركه خلفه كان كارثيًا، مانشستر يونايتد انهار فورًا: فقد هويته، فقد قوته، وفقد مكانته، تناوب المدربون على كرسيه ولم يجد أيٌّ منهم أساسًا صلبًا للبناء، النادي تحول من عملاق أوروبا إلى فريق يبحث عن نفسه كل موسم، ويعيد البناء كل عام دون نتيجة واضحة لمدة استمرت 12 عام.

حدث هذا لأن فيرجسون رحل في لحظة مثالية بالنسبة له، وليس بالنسبة للنادي، غادر وهو في قمة مجده، لكنه لم ينظر إلى الأرض التي يقف عليها الفريق من بعده، ولم يسلم النادي في حالة تمكن المدرب التالي من الحفاظ على السقف نفسه، ولهذا، وبعد أكثر من عشر سنوات، ما زال مانشستر يونايتد يعاني آثار تلك اللحظة: آثار خروج المدرب الذي أخذ المجد معه، وترك الفريق بلا روح.

بين بيب وأليكس.. من يصنع الاستمرارية ومن يصنع الفجوة؟

الفارق بين الرجلين ليس في الألقاب، بل في فلسفة الرحيل، فيرجسون غادر بينما فريقه على شفا حفرة من الانهيار، بينما جوارديولا يؤجل الرحيل لأن الفريق ليس مستعدًا بعد، الأول ترك النادي يتخبط عقدًا كاملًا بحثًا عن هوية، والثاني يقاتل ليضمن أن المدرب التالي سيجد أساسًا قويًا لا يحتاج إلى هدم، بل إلى تطوير.

وبينما خرج السير أليكس كـ”أسطورة فردية”، يبدو جوارديولا وكأنه يفكر كـ”أسطورة جماعية”، يبحث عن استمرار المشروع، لا مجرد استمرار سيرته الذاتية.

السير أليكس فيرجسون - مانشستر يونايتد - الدوري الإنجليزي (المصدر:Gettyimages)
السير أليكس فيرجسون – مانشستر يونايتد (المصدر:Gettyimages)

المقارنة بين جوارديولا وفيرجسون أبعد بكثير من مجرد اختلاف في أسلوب الرحيل، إنها مقارنة بين فلسفتين، بين مدرستين في فهم معنى المسؤولية، وبين رؤيتين متناقضتين لكيفية إنهاء الفصل الأخير مع نادٍ منحك المجد، فيرجسون غادر وهو يحمل التاج وحده، تاركًا فريقًا بلا نبض، ليدفع مانشستر يونايتد ثمن تلك اللحظة لسنوات طويلة.. ولا يزال حتى الأن، أما جوارديولا، فيبدو وكأنه يكتب درسًا جديدًا في أخلاقيات المدرب الكبير؛ مدرب لا يغادر إلا عندما يتأكد أن البيت لن ينهار بمجرد أن يغلق الباب خلفه.

من غادر وترك وراءه إرثًا يبقى؟

اليوم يقف مانشستر سيتي على عتبة مرحلة جديدة، مرحلة قد تكون بدون بيب للمرة الأولى منذ سنوات طويلة، لكن الفارق هذه المرة أن الفريق أعيد ترميمه، وثقوبه التي كانت مهددة بتحوله إلى نسخة أخرى من يونايتد بعد فيرجسون أصبحت مغلقة، وخطوطه متوازنة، وقوامه مستعد لمن يأتي بعده، وإذا قرر جوارديولا أن يرحل في نهاية الموسم، فإن رحيله لن يكون بداية أزمة، بل بداية انتقال مدروس بين عهدين.

التاريخ قد لا يذكر فقط كم بطولة حقق هؤلاء المدربون، لكنه سيذكر دائمًا من غادر وترك وراءه إرثًا يستمر، ومن غادر فدفن ناديه معه، واليوم، وبينما يتابع العالم كل خطوة في مستقبل بيب، يبقى السؤال مفتوحًا: هل نشهد رحيلًا جديدًا يضيف فصلًا من الحكمة في كرة القدم، أم لحظة أخرى تُعيد صدى درس يونايتد المؤلم بعد فيرجسون؟ الزمن وحده سيجيب، لكن المؤكد أن مانشستر سيتي، بعكس جاره الأحمر، لن ينسى أن مدربه فكّر في النادي قبل نفسه.