ما بين الضغوط والتحرر.. هل يجرؤ البرتغال على إنهاء قصة كريستيانو رونالدو؟
في مساءٍ بدا وكأنه فصل أخير في رواية طويلة، تتأرجح فيه العاطفة بين الوفاء والخوف، يجد المنتخب البرتغالي نفسه أمام سؤال لم يكن يتخيّل أن يطرحه يومًا: هل آن أوان طيّ صفحة كريستيانو رونالدو، أم أن الأسطورة التي صنعت وهج المنتخب لم تكتب سطرها الأخير بعد؟
تعيش البرتغال لحظة فاصلة في ملف كريستيانو رونالدو، الهدّاف التاريخي لمنتخبها وصاحب 143 هدفًا في 226 مباراة دولية، قصةٌ تتجاوز حدود المستطيل الأخضر، وتتشابك فيها السياسة بالمال، والرمزية بكبرياء بلدٍ لا يريد أن يعيش لحظة الوداع.
الجدل يتجدد مع اقتراب المونديال، ومع عقوبة الإيقاف التي ستُبعده عن مباراة واحدة على الأقل في دور المجموعات، وربما أكثر، بين الإرث الضخم للنجم الأربعيني والاحتياجات الفنية الراهنة، يجد روبرتو مارتينيز نفسه أمام السؤال الأصعب في مسيرته.
الإيقاف الذي فتح نافذة قرار الاستغناء عن كريستيانو رونالدو
منذ توليه المهمة مطلع 2023، دافع مارتينيز عن قيمة رونالدو داخل المجموعة، وعن التزامه واحترافيته، وخلال الأشهر الماضية واصل النجم التسجيل ضد منتخبات كبيرة مثل كرواتيا وسويسرا والدنمارك.

وترك بصمة ذهبية في نهائي دوري الأمم الأوروبية أمام إسبانيا بتسديدة لا يرتكبها إلا لاعب وُلد ليتحدى الضوء، كما هزّ شباك المجر مؤخرًا بثنائية في تصفيات كأس العالم 2026.
لكن الأرقام الإيجابية لا تُلغي حقيقة أن الاعتماد التاريخي على نجم نادي النصر السعودي يحتاج اليوم إلى مراجعة هادئة، فخلف كل هذا اللمعان، تتشكل غيوم داكنة تضغط على القرار المنتظر؛ خاصةً بعد طرده أمام جمهورية أيرلندا إثر ضربة بالمرفق لدارا أوشيا.
الواقعة وضعت مارتينيز أمام فرصة عملية لاتخاذ القرار، حتى لو دافع المدرب عن لاعبه وطالب بتخفيف العقوبة، تبقى لوائح فيفا صارمة وقد تمتد الإطاحة إلى ثلاث مباريات.
البرتغال لعبت بالفعل دون رونالدو واكتسحت أرمينيا 9-1، في إشارة واضحة إلى أن الفريق قادر على إنتاجية هجومية غزيرة من دون الاعتماد على رجل واحد.
إذا سافر كريستيانو رونالدو إلى كأس العالم، فسيغيب غالبًا عن المباراة الأولى وربما الثانية من دور المجموعات، عندها تصبح الحسبة الفنية أكثر تعقيدًا: هل يُبنى النسق على لاعب موقوف في بداية البطولة أم يُستثمر الزخم الجماعي الذي ظهر في غيابه؟
جاذبية كريستيانو رونالدو لا تُقاوم… وضغوط تتجاوز المستطيل الأخضر
لا يمكن فصل القرار عن تأثير رونالدو الرمزي والتجاري؛ فيفا ترغب في وجوده لرقم قياسي سادس مشاركة في المونديال، والقنوات العالمية ترى فيه مادة جماهيرية من الطراز الأول.
رونالدو أيقونة عابرة للحدود وقوة تسويقية هائلة، ما يجعل أي قرار فني محض محاطًا بطبقات من السياسة والعاطفة والاقتصاد.
وعلى الرغم من ذلك، يبقى القرار معقدًا، فالتخلي عن لاعب شارك في 226 مباراة دولية، ورفع اسم البرتغال في كل قارة، ليس مجرد خطوة رياضية.
إنه صراع بين القلب والعقل، بين الأسطورة والواقع، رونالدو رمز وطني، وقطعة من الهوية الوطنية، وصوت جماهيري يصعب تجاهله.
لكنّ المشكلة الحقيقية لم تعد في عدد أهدافه، بل في حدود حركته، أصبح رونالدو أشبه بمهاجم صندوق ثابت، يقرأ الملعب بذكاء مذهل، لكن عمره يخفّض من جرعته البدنية.
المدافعون الكبار باتوا يفهمون توقيته، وغياب مرونته يحرم البرتغال من تنويعات هجومية تحتاجها في مباريات لا تتكرر فيها الفرص.
تحرّر نفسي وتعدد مصادر الأهداف
في ليلة اكتساح أرمينيا، بدا أن غياب النجم الأكبر حرّر المجموعة نفسيًا؛ سجّل برونو فرنانديز وجواو نيفيز “هاتريك”، وأضاف جونسالو راموس وريناتو فييجا وفرانسيسكو كونسيساو بقية الأهداف.
هذه الصورة تعني أن البرتغال تملك وفرة نوعية من روبن دياز إلى برناردو سيلفا، وفيتينيا وماثيوس نونيز ورافاييل لياو؛ فريق قادر على صناعة الفارق من أكثر من مركز.
صحيح أن البرتغال لا تمتلك حتى الآن رأس حربة “نخبويًا” بمقياس عالمي، لكن راموس يتطور في باريس سان جيرمان وقد يزدهر أكثر بعيدًا عن الظل الثقيل لـCR7.
التمرين الحقيقي للمنظومة يبدأ حين تكون كل الأضواء موزعة على المجموعة لا على فرد واحد.
الاختبار الأصعب أمام مارتينيز.. هل سيطوي صفحة كريستيانو؟
الأصعب في قرار مارتينيز أنه يتجاوز التكتيك إلى الإرث، كيف تُنهي حقبة من الإلهام دامت عقدين؟ أحد المخارج العملية يتمثل في منح رونالدو وداعًا يليق به خلال توقف مارس الدولي في لشبونة، مع تثبيت مسار فني جديد يُبنى على السرعة والضغط وتدوير المراكز أمام المنافسين الكبار.
المؤشرات الفنية تميل إلى أن اللحظة مواتية لاتخاذ قرار شجاع، ليس لأن رونالدو فقد قيمته تمامًا، بل لأن البرتغال تبدو مستعدة للانتقال من “فريق النجم” إلى “نجومية الفريق”.
إذا مضت البرتغال من دونه ستبقى مدينة له بما قدّم، وإذا قررت استدعاءه فليكن وفق أدوار محددة لا تُربك المنظومة، ما ينتظره الجميع الآن: هل يمتلك مارتينيز الجرأة لكتابة الفصل الأخير بأناقة، وفتح كتاب جديد بلا ضجيج؟

تعليقات