في أثناء تسكعي على فيسبوك، صادفت بوستر أحد الأفلام يحمل الكابشن: “My Free Therapist”، وكم أدهشني هذا العنوان! فأنا شخصيًا مصنّفة “مسجلة خطر” عند الأطباء النفسيين، وكذلك عند الأخصائيين النفسيين. ومع ذلك، وجدت في الكابشن ما يشبه ضوءًا خافتًا في نفق مزدحم، فهرعت أبحث عن الفيلم وأنا أتأمل سؤالًا بسيطًا لكنه عميق:
ماذا لو وُجد لكل شخص في هذا العالم “ثيرابيست مجاني”؟
ربما من غير المهم أن أضيف، لكنها معلومة واقعية: سعر الجلسة النفسية المحترمة اليوم يتراوح ما بين ألف إلى ألفي جنيه، وقد تصل إلى أكثر، رغم أن مدتها لا تتجاوز غالبًا 45 دقيقة.
وفي هذه الدقائق المعدودة، تجد نفسك تعمل كـ”ريكوردر”، تمرّر مأساك إلى شخص مرهق أصلًا. وعلى مدى العامين الماضيين، تعاملت مع ما يقرب من عشرة معالجين نفسيين، ما بين أطباء وأخصائيين. وبرغم أن حالتي لا تُعد من الحالات المستعصية – مجرد اكتئاب طفيف والحمد لله – إلا أنني لم أجد اهتمامًا يُذكر من معظمهم.
أذكر أنني تواصلت مع أحدهم، وحين بدأت الحديث عن مآسي الطفولة، قاطعني ليسأل عن الدولة التي أعيش فيها. وحين أخبرته بأنني أُقيم مؤقتًا في إحدى دول الخليج، توقّف وسألني إن كنت سأدفع بالدولار! كانت المسألة بالنسبة لي أكبر من المال؛ كنت أبحث عن التعاطف، عن الاحترام. أما هو، فكل ما شغله هو سعر الجلسة.
تجربة أخرى كانت مع أخصائية نفسية ذائعة الصيت. دفعت مقدمًا لجلسة أونلاين، وحين التقينا عبر الشاشة، كانت ناعسة، عابسة، بائسة، وكأنني أقتحم وقت قيلولتها. شعرت بأن طلبي – المدفوع مسبقًا – ثقيلٌ عليها. لم تُظهر أي قدر من الحماس أو الرغبة في المساعدة، كأنها تؤدي عملًا روتينيًا.
أما كبار الأطباء، فحدث ولا حرج. أحدهم، وهو من أشهر الأسماء في مصر، يمتلك مستشفى نفسيًا خاصًا. ذهبت لأحكي له عن سلوك ابني المراهق، فجاءني بحلٍّ جذري: “نحجزة شهرين للتقويم”!
وطبيب آخر، جاءني ترشيحه من صديق. وبعد زيارة واحدة اكتشفت أنه يتقاضى عمولة عن كل “زبون” يُرسل إلى مركز علاجي يملكه صديقه.
هكذا إذًا، آلاف تُدفع مقابل لا شيء تقريبًا. جلسات فارغة، ووجوه مرهقة، ومبالغ تتضاعف، دون تعاطف يُذكر.
وفي ظل هذا الواقع، ظهر وجه آخر للعلاج: الذكاء الاصطناعي. ذات مرة، نشر حسام مصطفى، المتخصص في تقنيات الذكاء الاصطناعي، “برومبت” (تعليمات) موجّهة إلى ChatGPT، ليقوم بدور الأخصائي النفسي. والحق يُقال، كانت التجربة ناجحة إلى حدٍ ما. استمعت الآلة، تجاوبت، دعمت، ثم قالت لي في النهاية:
“رصيدك انتهى… هل ترغبين في حديث أطول؟ ادفعي مئة دولار تقريبًا!”
) لست متأكدة من الرقم، لكنني أتذكر الإحباط جيدًا (
فماذا لو وُجد فعلًا “معالجنا المجاني”؟
ليس بديلًا عن الطب، ولا عن العقاقير الضرورية، بل بديلًا عن الاستهلاك العاطفي والمالي المتواصل دون مقابل حقيقي. كلٌّ منا يحتاج إلى مساحة تنفس. شيءٌ ما يُسعده. بالنسبة لي، لا شيء يُضاهي لحظة إنهاء كتاب جيد وفتح آخر، أو التعبير عن ذاتي بالكتابة، أو الجلوس مع عائلتي في سهرة خفيفة.
مؤخرًا عشت بعض هذه اللحظات، وساهمت فعلًا في تحسن حالتي النفسية، رغم استمراري في أخذ دواء نفسي بسيط بإشراف الطبيب.
وأنت؟
هل هناك من تُحب/تُحبين وجوده في حياتك، فيجعل الدنيا أكثر احتمالًا؟
هل تسعدك أمسية هادئة، فيلم رومانسي، كوب شاي وطبق لب؟
هل تجد سعادتك في التسوق، أو في السفر والرحلات، أو في السكون فقط؟
ابحث عن هذا الشيء – أيا كان – وتمسّك به. ليس كبديل عن الطب النفسي الحقيقي، بل كدرع واقٍ من الدخول في دائرة استهلاكية قاسية من الجلسات الباهتة التي لا تمنحنا سوى الشعور بأننا مجرد “حالة” على جدول مواعيد طبيب.
وفي النهاية…قد لا نجد دائمًا “ثيرابيست مجاني” يستمع إلينا، لكننا نستطيع – ولو جزئيًا – أن نكون هذا الشخص لأنفسنا.
اقعدوا بالعافية