برشلونة فوق الجميع حتى ميسي؟ تصريحات لابورتا دفاع عن القرار أم هروب من الذنب
في صيفٍ قاتمٍ من أغسطس 2021، خيّم الصمت على “كامب نو“، ليس صمتَ جماهيرٍ غاضبة أو دهشةَ صحافةٍ متعطشةٍ للسبق، بل صمتُ وداعٍ يشبه الفقد، كان ليونيل ميسي، آخر رموز الجيل الذهبي، يقف أمام شعار برشلونة والدموع تخونه.
لم يكن أحد يصدق أن الحكاية انتهت، حينها أعلن النادي الإسباني في بيانٍ مقتضب أن “العقبات الاقتصادية والهيكلية” حالت دون تجديد عقد ميسي رغم اتفاق الطرفين، كلماتٌ باردة، مختصرة، تخلو من حرارة التاريخ، وكأنها تنعي علاقةً من الورق لا من الروح.
في تلك اللحظة، لم يفقد برشلونة مجرد لاعب، بل فقد قلبه النابض، صوته في الملعب، ووجهه أمام العالم، فبرحيل ميسي انهارت منظومة التفوق التي استمرت أكثر من عقد ونصف، وبدأ الانهيار الإداري، وتوالت الأزمات المالية، وغابت الهوية، ولأن ميسي كان أكثر من مجرد نجم، فإن فقدانه ترك فراغًا لا تملؤه ملايين الدولارات ولا شعارات العزة الكاذبة.

البيان الذي غيّر التاريخ.. حين رحل ليونيل عن البرسا
في الخامس من أغسطس 2021، جاء الإعلان الصادم من الموقع الرسمي لفريق برشلونة بإعلان ليونيل ميسي خارج حسابات الفريق في المرحلة المقبلة وعدم تجديد تعاقده:
“رغم التوصل إلى اتفاق، والنية الواضحة لتجديد العقد، لا يمكن أن يتم ذلك بسبب عقبات مالية وهيكلية (قواعد رابطة الدوري الإسباني)“.
لكن خلف هذا البيان الرمادي كانت هناك قصة أكثر تعقيدًا، تقارير كثيرة أكدت أن الحلول كانت موجودة، وأن ميسي نفسه وافق على تخفيض راتبه إلى النصف من أجل البقاء، بل إن اللاعب أبدى استعدادًا للتنازل عن المزيد مقابل البقاء في بيته الذي احتضنه منذ كان طفلًا بعمر الثالثة عشرة.
لكن قرار الرحيل اتُّخذ من القمة — من مكتب الرئيس خوان لابورتا — الذي فضّل أن يُظهر نفسه كمنقذ للنادي من “الاعتماد على ميسي”، حتى لو كان الثمن هو خسارة أسطورته الأكبر.

(المصدر:Gettyimages)
كان كثيرون يرون أن ما فعله لابورتا لم يكن قرارًا إداريًا بحتًا، بل قرارًا سياسيًا يهدف إلى رسم صورة “القائد الصارم” الذي يضع مصلحة النادي فوق الجميع، في وقتٍ كانت فيه جماهير برشلونة تبحث عن أي بطلٍ يعيد لها الثقة بعد سنواتٍ من الفوضى.
ميسي الذي جعل برشلونة فوق الجميع.. خُذل باسم الشعار ذاته
مرت السنوات، وتبدلت الأحوال، لكن الجرح ظل مفتوحًا، وبعد زيارة ليونيل إلى ملعب كامب نو، عاد لابورتا للحديث مؤخرًا عن الواقعة، وبدا وكأنه يسكب الملح على الندبة القديمة. قال الرئيس الكاتالوني:
“خروج ميسي؟ من الواضح أنني لست نادمًا على أي شيء، لأن برشلونة بالنسبة لي فوق اللاعبين، وفوق الرؤساء، وفوق المدربين، وفوق الجميع“.
تصريح أعاد إشعال الغضب في قلوب جماهير برشلونة، التي رأت فيه تبريرًا مغلفًا بالوطنية الزائفة لقرارٍ ما زال النادي يدفع ثمنه رياضيًا ومعنويًا حتى هذه اللحظة، رغم أن ظهور لامين يامال خفف من جراح العشاق.
كيف يمكن لرئيس أن يقول إنه “غير نادم” على خسارة من جعل برشلونة فوق الجميع حقًا؟ كيف يمكن لمن فقد أعظم لاعب في تاريخ النادي أن يرفع شعار “النادي أولًا” بينما لم يقدر على الحفاظ على روح النادي ذاتها؟
لابورتا حاول التخفيف من حدة كلماته حين أضاف:“كنت أتمنى نهاية أفضل بين برشلونة وليو… إذا كان يمكن للتكريم أن يُصلح بعض الأمور التي انتهت بالشكل الذي لا نريده، فسيكون ذلك رائعًا“.
لكنّ الواقع أن التكريم، مهما بلغ حجمه، لا يمكنه أن يمحو لحظة الرحيل الباردة، ولا ذلك المؤتمر الصحفي الذي بكى فيه ميسي وحده، بينما اختفى من تسببوا في ألمه خلف الأبواب المغلقة.
ميسي: ما زلت غير قادر على تجاوز ما حدث
في مقابلة حديثة مع صحيفة سبورت الإسبانية، تحدث ليونيل ميسي بصوتٍ مفعم بالوجع: “حتى اليوم، لا أستطيع أن أتجاوز الطريقة التي غادرت بها برشلونة“.
لم يقلها من باب العتاب، بل من عمق الحنين، فميسي لم يغادر نادياً فحسب، بل غادر بيته الأول، مدينته التي تربّى فيها، وجماهيراً كانت تناديه بالاسم كما لو كان واحداً منهم.
كان يظن أنه سيعتزل في برشلونة، أن أبناءه سيكبرون هناك كما كبر هو في “لا ماسيا”، وأن آخر تمريرة في مسيرته ستُعزف على أنغام “كلاسيكو” تحت أضواء كامب نو، لكن القدر، أو بالأحرى القرار، بدّل السيناريو إلى وداعٍ موجع، بعيون دامعة وصمتٍ ثقيل.
هل كانت هناك حلول بدلاً من رحيل الأسطورة؟
من الناحية التقنية، لم يكن رحيل ميسي “حتميًا” كما ادعت الإدارة، فالنادي الذي أطلق لاحقًا ما سُمي بـ”الرافعات الاقتصادية”، وهي إجراءات اتخذها النادي لزيادة دخله وحل أزمته المالية من خلال بيع أصول وحقوق مستقبلية بشكل مؤقت للمستثمرين، هو نفسه النادي الذي باع حقوق بثه التلفزيوني واستثماراته المستقبلية لإنقاذ نفسه، وكان قادرًا على تفعيل إحدى تلك الرافعات قبل رحيل ميسي.

وكان يمكن التوصل لاتفاقٍ مرحلي مع رابطة الدوري، أو حتى تأجيل تسجيل العقد كما فعلت أندية أخرى، لكن إدارة لابورتا اختارت التضحية بالأسطورة قبل التضحية بالبيروقراطية، ولذلك، يرى كثير من المحللين أن القرار لم يكن ماليًا بقدر ما كان سياسيًا — استعراض قوة، وإعادة رسم هوية — حتى لو كان الثمن كسر أعظم أيقونة في تاريخ النادي.
ميسي.. الإرث الذي لا يُمحى من تاريخ برشلونة
من الصعب أن تختصر إرث ليونيل ميسي في أرقام، لأن الأرقام مهما عظُمت تبقى عاجزة عن احتواء ما فعله داخل المستطيل الأخضر، فميسي لم يكن مجرد لاعب كرة قدم، بل مشروع أسطورة اكتملت ملامحها في برشلونة، النادي الذي احتضنه طفلًا نحيل الجسد، ليصنع منه رمزًا خالدًا في ذاكرة اللعبة.
على مدى أكثر من 17 عامًا، كتب ميسي فصولًا من المجد لا تُمحى: 778 مباراة بقميص الفريق الكتالوني، 672 هدفًا جعلته الهدّاف التاريخي للنادي، و303 تمريرات حاسمة تحوّلت إلى لحظات خالدة في ذاكرة الجماهير، تُوّج خلالها بـ 35 لقبًا جماعيًا، منها 4 دوري أبطال أوروبا و10 ألقاب دوري إسباني و7 كؤوس ملك و3 بطورلات من مونديال الأندية و8 ألقاب سوبر إسباني.

أما على الصعيد الفردي، فحصد 82 جائزة، من بينها 8 كرات ذهبية و6 أحذية ذهبية، لتصبح سيرته مرجعًا يُقاس عليه معنى العظمة، لكن الأرقام، رغم بريقها، لا تروي القصة كاملة، فكل بطولة كُتبت باسم برشلونة بين عامي 2005 و2021، كانت بصمة ميسي واضحة في تفاصيلها — هدف حاسم في نهائي، تمريرة مستحيلة فتحت طريق الكأس، أو لحظة سحرية ومهارة فردية غيّرت مجرى التاريخ.
لم يكن مجرد مساهم في البطولات، بل كان السبب الأول وراءها، في عصره، تحوّل برشلونة من نادٍ عريق إلى أسطورة كروية عالمية، تُضرب بها الأمثال في الجمال والهيمنة والخلود.
أهدافه في ريال مدريد، وتمريراته أمام أرسنال، ومراوغاته التي كانت تشق المستحيل، كلها كانت قصائد فنية تُروى أكثر مما تُعدّ، ميسي لم يكن لاعبًا يخدم منظومة برشلونة، بل كان هو المنظومة نفسها: القلب والعقل والروح، وعندما رحل، بدا النادي كمن فقد توازنه فجأة، لأن من كان يضبط إيقاعه لم يعد هناك.
| الفئة | الإحصائية / الإنجاز | التفاصيل |
|---|---|---|
| عدد المباريات | 778 مباراة | بقميص برشلونة في جميع البطولات بين 2004 و2021 |
| عدد الأهداف | 672 هدفًا | الهدّاف التاريخي للنادي بفارق كبير عن أقرب ملاحقيه |
| التمريرات الحاسمة | 303 تمريرات | صانع اللعب الأول في تاريخ برشلونة |
| الألقاب الجماعية | 35 لقبًا | — |
| دوري أبطال أوروبا | 4 مرات | 2006 – 2009 – 2011 – 2015 |
| الدوري الإسباني | 10 ألقاب | من 2005 إلى 2019 |
| كأس ملك إسبانيا | 7 ألقاب | — |
| كأس السوبر الإسباني | 8 ألقاب | — |
| كأس العالم للأندية | 3 مرات | — |
| الألقاب الفردية | 82 لقبًا | منها 8 كرات ذهبية و6 أحذية ذهبية و10 جوائز أفضل لاعب في أوروبا |

رحيل ميسي بين الكبرياء والندم
قد يكون شعار “برشلونة فوق الجميع” صحيحًا في المبدأ، لكن تطبيقه كان مؤلمًا في الواقع، فالنادي الذي صنعه ميسي بقدميه قرر أن يودّعه كأنه عبء، لا رمزًا من رموز البلوجرانا، بل واللعبة برمتها.
ولأن التاريخ لا يرحم، سيظل السؤال عالقًا في ذاكرة الكرة وعشاقها، خاصة في إسبانيا: هل كان لابورتا يحمي برشلونة حين تخلّى عن ميسي؟ أم كان يحمي نفسه من ظلّه؟
الحقيقة المؤكدة أن برشلونة بعد ميسي لم يعد كما كان، وأن الأسطورة التي رحلت لم تترك فراغًا فنيًا فقط، بل فراغًا في الروح، ميسي غادر، لكن صورته ما زالت ترفرف في الكامب نو كطيفٍ مقدس، يذكّر الجميع أن من جعل برشلونة “فوق الجميع”.. كان ميسي نفسه، لا من رفع الشعار بعد رحيله.

تعليقات