لم أستغرب – ولن أستغرب- هذا السيل من التعاطف الأجوف، المسموم، المريب، مع من لا يستحق سوى العقاب والتأديب المجتمعي، ذلك المدعو “شهاب” الملقب بـ”بتاع الجمعية”، سواق التوكتوك وصاحب البلطجة الصغيرة والوجه الأكبر لترهل الضمير.
ولم يكن ذلك جديدًا، فقد رأينا من قبل – ويا للعجب!- بعضًا من السفلة وأشباه الناس، وهم يتعاطفون مع قاتل الطالبة نيرة أشرف، وكأن الضحية مذنبة لأن وجهها كان يشبه الحياة، ولأنها أرادت أن تحيا بكرامة لا يطيقها القتَلة والمهووسون.
نعم، لم أندهش، لأننا صرنا نعيش في زمن موت العقل وضمور القلب، زمن يخلط فيه البعض بين الشهرة والحقارة، بين الترند والعار، بين المتابعة والتواطؤ.
والسؤال الذي لا يكف عن القصف داخل رأسي: من يصنع الترند؟ ولماذا هذا الترند بالذات الآن؟ هل هي مصادفة بريئة؟ أم أن هناك ما هو أخطر: أسلوب ممنهج للإلهاء الإعلامي؟
نعم، في ظل توقف مباريات الدوري والكأس، وغياب مساحات الجدال الرياضي التي كانت تسكن وجع الشارع وتفرغ شحنات الغضب، لم يكن من الصعب أن يُلقى لنا بشهاب أو غيره في الميدان، ليكون صيدًا إعلاميًا، طُعْمًا لاصطياد العقول التائهة، وترسيخًا لثقافة التفاهة والعدمية.
هل هناك جهات خفية وراء صناعة الترند؟
سؤال مشروع، بل واجب أن نطرحه، لا بوصفنا متفرجين على الهزل، بل كمجتمع مهدد بتحول بعض أفراده إلى جماعات تصفق للقتلة وتصفق للبلطجية، وتدافع عن العفن بحجة “حرية التعبير”، بينما الحقيقة أن ما يُمارس هو حرية تدمير القيم.
إن من يتعاطف مع القتلة والسفلة والبلطجية ليس فقط مضللًا… إنه مريض، مريض بالفكر، والقلب، والعقل.
وهنا مربط الجرح والفرس..
كيف نواجه هؤلاء؟ كيف نحمي مجتمعنا منهم؟ كيف نُغلق أبواب التسلل في جسد هذا الوطن المتعب، حتى لا تنهشه ذئاب الجهل واللاأخلاق؟
أول العلاج أن نُسمي الأشياء بأسمائها: لا نسمي البلطجة “شهامة”، ولا الجريمة “رد فعل”، ولا القاتل “ضحية مجتمع”، ولا التافه “صاحب محتوى”، ولا التريند “صوت الشارع”.
نحن بحاجة إلى إعلام حقيقي، لا يصنع من القبح صدارة، ولا يختبئ خلف “ما يطلبه الجمهور”، بل يرتقي بالجمهور.
نحن بحاجة إلى مدارس تعلم أبناءنا كيف يحترمون الحياة لا يختزلونها في فيديو أو لايك، بحاجة إلى آباء لا يخجلون من التربية، إلى معلمين لا يخافون من الحقيقة، إلى مجتمع يعالج مرضاه لا يصفق لهم.
نحتاج إلى استعادة القيمة… إلى نفض هذا الغبار الذي خنق رئاتنا وعقولنا.
فلا وطن يبنى تحت أقدام الترند، ولا حضارة تنمو على ضجيج المعتوهين.!!