وفي هذا السياق، أوضح المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية أن من أشهر الطيور المهاجرة المهددة بالانقراض التي تمر بأجواء المملكة طائر “القمري الأوروبي” وطائر الحبارى، كما تشمل القائمة عددًا من الأنواع الأخرى اللافتة، من أبرزها “الوروار الأوروبي”، وبلشون الليل، والنحام، والكروان الأوراسي، هذه الطيور وغيرها تسلك طرقًا محددة تمتد بمحاذاة السواحل والجبال وتتجنب الصحاري المفتوحة، مستفيدة من امتلاكها لأجنحة قوية وأجسام خفيفة تساعدها في تقليل جهد الطيران لمسافات طويلة.
وتسهم المناطق المحمية في توفير بيئات آمنة وغنية بالعناصر الحيوية التي تحتاجها الطيور المهاجرة في أثناء توقفها، بما يشمل الغذاء، والماء، والغطاء النباتي؛ مما يعزز فرص بقائها واستمرار رحلتها الموسمية بسلام، إذ تُعد هذه البيئات خطوط دعم حيوية في شبكة الهجرة العالمية، وتُسهم في استقرار التوازن البيئي محليًّا وعالميًّا.
ومن هذا العمق البيئي انطلقت المملكة نحو بناء منظومة حماية شاملة تقوم على ركيزتين: المعرفة والتشريع، من خلال التعاون مع منظمات عالمية متخصصة، على رأسها “بيرد لايف إنترناشيونال”، إذ بدأت المملكة ببناء خرائط علمية دقيقة لمسارات الطيور، ورصد سلوكها عبر الأقمار الصناعية، وتوثيق محطات توقفها الكبرى، وأفضى هذا التعاون إلى إطلاق ورش عمل تقنية لرصد الانتهاكات البيئية، وتطوير أدوات رقمية حديثة لكشف الصيد غير المشروع وتحديد هوية مرتكبيه.
وفي الوقت الذي لم يعد فيه الملف البيئي شأنًا محليًّا، تبنّت المملكة دورًا رياديًّا على المستوى الإقليمي، إذ أسهمت في تأسيس فريق عمل مختص بمكافحة الصيد غير المشروع للطيور المهاجرة في جنوب غرب آسيا، ضمن إطار اتفاقية حماية الأنواع المهاجرة “CMS”، واستضافت الرياض أولى اجتماعات هذا الفريق، لتؤكد التزامها العالمي بحماية الحياة الفطرية، ولتضع بذلك نفسها في طليعة الدول التي توازن بين التنمية والبقاء البيئي.
أما على الصعيد الوطني فقد كثّف المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية جهوده لتنظيم أنشطة الصيد وضبط ممارساته بما يحقق الاستدامة، إذ أطلق موسمًا رسميًّا للصيد وفق ضوابط دقيقة وفترات زمنية محددة، وأتاح إصدار رخص إلكترونية تُمنح بأعداد مقنّنة لكل نوع، بما يضمن عدم تجاوز القدرة البيئية على التعافي، وشملت الإجراءات المصاحبة تطوير تنظيم موسم الصيد ومتابعة تطبيقه وفقًا لنظام البيئة ولائحته التنفيذية، وإنفاذ القوانين البيئية من خلال فرق التفتيش التابعة للمركز بالتعاون مع القوات الخاصة للأمن البيئي، إلى جانب تركيب عوازل على خطوط الكهرباء ذات الجهد المتوسط الواقعة على مسارات هجرة الطيور، وأتمتة جميع الإجراءات المتعلقة بموسم الصيد عبر منصة “فطري”، لتيسير الخدمة وضمان الالتزام بالأنظمة.
هذه الجهود أثمرت اعترافًا دوليًّا، تُوِّج بحصول المملكة على الجائزة العالمية للريادة في حماية الأنواع المهاجرة، وهي شهادة عالمية تُضاف إلى سجل إنجازاتها البيئية، وتعكس فاعلية ما أنجز من إصلاحات وتشريعات وتوعية.
ومع مرور هذه الطيور فوق جبال حائل، وسواحل البحر الأحمر، ومجاري الأودية في الجنوب، تجد منظومة متكاملة من الحماية تضمن لها ملاذًا آمنًا ومسارات خضراء تعزز من تكامل دورتها الحيوية، وتمنحها فرصة التعافي والاستمرار، تلك المنظومة هي ثمرة جهود وطنية في حفظ النُظم البيئية، وتطوير إستراتيجيات التكيّف مع التغيرات المناخية تحت ظل رؤية المملكة 2030، فلم تعد البيئة مجرد هامش تنموي، بل باتت عنصرًا جوهريًا في بناء المستقبل، وفق رؤية تنبع من وعي عميق بمفهوم التوازن البيئي، وفهمٍ حضاري لمعنى أن تكون الأرض رحبة، والسماء حرة، ففي كل جناح يرفرف فوق الصحراء، هناك درس في الشراكة الكونية، ومسؤولية تُحمل، ورسالة يُفهم منها أن حماية الطبيعة ليست ترفًا، بل ضرورة وجودية، تحفظ للكوكب توازنه، وللسماء أسرارها.