لماذا يكون نطاق “الاستفسار” ضيقًا في ثقافتنا العربية؟

شارك هذه المقالة مع أصدقائك!


 

يوسف عبدالله محمود

ازعم ان حيز “التساؤل” في ثقافتنا العربية، قديمها وحديثها، محدود الى ابعد حد؟ لماذا لا نجد هذه “المحدودية” في ثقافات غيرنا من الأمم؟ في تصوري ان ذلك يعزى الى سيف بعض السُّلط الحاكمة العربية. يعزى الى خشيتها من أسلوب “التساؤل” او “المساءلة”، فهو يكشف ما لا تريده ان يكشف من طغيان، وانتهاك للحريات. كثير من السُّلط العربية وعلى امتداد العصور يرعبها ان يسائلها احد. ان ينتقد تصرفاتها وان يفضح انتهاكاتها. ما يرضيها ان تبرر مواقفها. لذا فهي على حد قول المفكر العربي المعاصر زكي نجيب محمود “تطمئن الى صاحب “التصديق السريع” ويقلقها ان يقف متشكك ليتساءل قبل اين يجزم بالصواب. فسريع التصديق عندنا اقرب الى الملائكة والمتشكك اقرب الى الشياطين”. (د. زكي نجيب محمود “تجديد الفكر العربي” ص 340)
 ويمضي زكي نجيب محمود مستنكراً: “ما هكذا روح الحياة العلمية”.
إن ما اشار اليه هذا المفكر ينبغي ان يفتح عيوننا على ظاهرة خطيرة تشدنا الى الوراء بدل ان تدفع بنا ال الأمام. إن اتهام “المتشكك” بأنه مُلحد او انه جدف عكس التيار السائد ليس الا محاولة لتبرير “الخنوع” والاستسلام العربيين، والا لماذا تتم مصادرة اقوال “المتشكك” الذي يبحث عن اليقين من خلال “الشك” أولاً!
هو لا يمارس “الشك” مكابرة او غرورًا، بل يمارسه وفق منهجية علمية، ما زالت –مع الأسف- غائبة او مُغيبة عن واقعنا العربي. حين ابدى طه حسين شكه في بعض الشعر العربي جُردت الحملات القاسية عليه. وكأنه لا يمارس حقًا علميًا مشروعًا!
ومع الأسف، مازال حيز “التساؤل” او “المساءلة” يلقى معارضة شديدة وبخاصة من بعض أوساط المحافظين من العلماء والفقهاء!
لقد حثتنا الأديان السماوية جميعها على تبني أسلوب “المساءلة” ما دام هذا الأسلوب غايته الوصول الى الحقيقة. لم تقيد هذه الأديان العقل الإنساني، انما الذي قيد هو نظام الحكم الذي أراده عقلاً خاملاً –اذا جاز التعبير- لا يؤرقه ظلم هنا وظلم هناك. ممنوع على هذا العقل ان يقرأ واقعه قراءة رشيدة. ممنوع عليه ان يُسائل او يتساءل. عليه ان يهجر هذا “الأسلوب” وان يذعن ويستسلم. والا فالسياف يترصده أينما ذهب ليشفي غليله منه!
الذين “تساءلوا” من المثقفين والعلماء العرب رصدهم هذا السياف فأجهز عليهم بعد ان وجه اليهم تهمة “الزندقة” او “الالحاد”! هم زنادقة او ملحدون لان هموم مجتمعاتهم ارقتهم فلم يعودوا يطيقون صبرًا إزاء مظالم عصرهم. وحين انتفضوا في كتاباتهم على هذه المظالم. وحين تساءلوا تساؤلاتهم المشروعة التي يُقرها “العقل” طوردوا او أُحرقوا وهم احياء! سلوك تأباه اديان السماء!
اليوم مازال هذا الوضع المأساوي مُلازمًا واقعنا العربي، “المساءلة” ممنوعة، الفكر المستنير الذي يلاحق “الخرافات” ويعالج الأمور بأسبابها الحقيقية لا بالأوهام والمُسَلمات المتمردة على العقل، ينبغي ان يُستأصل ويُستأصل معه أصحابه. قُلت: إن “المتسائلين” من المثقفين العرب وحتى يومنا هذا، ظلوا او ظل الكثيرون منهم في زمرة المارقين، لم توسع الأنظمة صدورها لهم، فتتخلى عن بيروقراطيتها، وتدخل معهم في سجال او حوار موضوعي، يلزم المتحاورين بأدب “الحوار” بعيدًا عن التشنج او استخدام “السيف”!
الكثيرون من “المفكرين” العرب الذين قبعوا –ومازال بعضهم يقبع الى الآن- في السجون والمعتقلات العربية لم يشهروا سلاحاً في وجه السلطة في بلدانهم. جريرتهم انهم بسلاح الكلمة أرادوا اضاءة عتمة هنا وعتمة هناك. ذنبهم انهم مارسوا في كتاباتهم “الفكر النقدي” من خلال رواية او قصيدة او عمل مسرحي او دراسة علمية لنص تراثي.
شُنت على هؤلاء المفكرين اشنع الحملات والتي قادها من هم في مركب بعض السُّلط العربية من “مشايخ” وفقهاء ومثقفين موالين للسلطة في بلادهم لا يتقون الله في مُوالاتهم! هؤلاء قوُّلوا هذا النص الإبداعي ما لم يقله في الحقيقة، فأثاروا فتنة لم تنطفئ حتى اليوم!
وفي هذا السياق يقول الناقد والمفكر العربي فيصل دراج من فكتابه “الحداثة المتقهقهة، ص 247 ما يلي: “فالمثقف التنويري لم يكن “اميرًا”ـ ولا حلم بالامارة، لانه كان يرى ارتقاء الوطن قبل ان يرى البشر الذين يتوجه اليهم”.
بعبارة أخرى فهذا “المثقف التنويري” لم تكن غايته تملق جهة من الجهات، بل كانت عزة الوطن وكرامته. وهذا ما رفضته بعض السًّلط العربية من منطلق ان هدف أصحابه التآمر على “الامن القومي”!
اعود الى “حيز التساؤل” في ثقافتنا العربية المعاصرة. فأرى انه مازال محدوداً جدّا، يضيق باستمرار.
ما زال القمع العربي في مجتمعاتنا العربية –ولا أقول كلها- يُمارس بغلظة على أصحاب “الرأي” الذين اعتمدوا نهج “المساءلة” في كتاباتهم؟ مساءلة الهدف منها التنوير لا الهدم. مساءلة أراد أصحابها –وبكلمات فيصل دراج- “الكشف عن تجليات اللاعقلانية في المجتمع العربي”.
حورب مثل هذا “الكشف” من قبل بعض السُّلط العربية مما دفع ببعض المفكرين الى ان يلوذوا “بالصمت”!
باختصار، إن هذا الفكر التنويري جاءت ولادته في ظرف تاريخي شاذ، بمعنى انه ظرف يخشى “مساءلة” الفكر في حين يقبل الفكر التقليدي الذي لا خطورة منه على الواقع العربي المأزوم! يخشى هذا “الظرف التاريخي العربي” أي تفسير عقلاني للظواهر الشاذة في البنية العربية بينما يقبل التفسيرات التي لا تصمد امام العقل! يقبل تسويغ ما لا يجب تسويغه!
[email protected]



‫0 تعليق

اترك تعليقاً